عشرات الآلاف سيغادرون لبنان: تذاكر بلا عودة

يُوَضّب محمد كريدلي (21 عامًا) حقائبه عشيّة هجرته إلى كندا حيث يطمح لبناء مستقبل يليق بطموحاته بعد تخرّجه بإجازة في علوم الكومبيوتر من الجامعة اللبنانية الأميركية واكتشافه أن خطته السابقة بالدخول الفوري إلى سوق العمل باءت بالفشل بعد أن أقفلت معظم الشركات المتعددة الجنسيات مكاتبها في لبنان،

 وأفلست غيرها من تلك التي كانت رائدة في مجال الكومبيوتر والمعلوماتية. كريدلي الذي يراقب والده الذي أسّس في لبنان وبغفلة من الزمن خسر كغيره من اللبنانيين مدّخراته المصرفية وتوقفت شركته عن العمل، إتخذ القرار النهائي بالهجرة بحثًا عن حياة تشبه الحياة.
 

​يسأل كريدلي جدّه، وهو في قمّة الإحباط، عن لبنان ما قبل تسعينيات القرن المنصرم، عن سبعينيّات الوطن التي فيها إندلعت الحرب الأهلية، عن سبل صمود جدّه رغم الحرب والإقتتال والخوف.
كغيره من الشباب اللبناني يخاف كريدلي من خيار الهجرة إن كان باليد حيلة للبقاء. لكنّ جدّه يجزم له أن الحرب الأهلية كانت ألطف على اللبنانيين من هذه الأيام، على الرغم من جبروتها وبشاعتها والدماء التي نزفت حينها. ويردف قائلا: “الوضع المعيشي كان أفضل بكثير خلال الحرب الأهلية ممّا هو عليه اليوم”. يتحدّث عن الفصائل المسلّحة التي كانت تزوّد اللبنانيين بالدولار الأميركي، ويصف مواقيت العمل حيث كانت المحال في بيروت تقفل عند الثانية عشرة ظهرا قبل بدء الإقتتال. يستذكر الماضي الأليم الأرحم من الحاضر ويدعو لحفيده التوفيق في المهجر والدمعة بعينيه.
أرقام الهجرة بين الماضي والحاضر
​هجرة اللبنانيين تعود إلى القرن التاسع عشر وتنقسم إلى أربع مراحل. الأولى كانت خلال الحقبة العثمانية، والثانية خلال الإنتداب الفرنسي، أما الثالثة فتمتد من عام 1975 إلى عام 1990، أي حقبة الحرب الأهلية حينما ترافق العنف السياسي مع تردي الوضعين الإقتصادي والمعيشي، وكانت ذروة الإنهيار في أواخر الثمانينات حينما هبطت قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار ولامست الثلاثة ألاف ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد. وقد سَجَّلت تلك الحقبة هجرة حوالي 900 ألف مواطن لبناني، بحسب المنظمة الدولية للهجرة. أما الفترة الرابعة فتمتد من عام 1990 حتى يومنا هذا، وهي للمفارقة تشهد أعلى معدلات الهجرة لاسيّما في صفوف الشباب حيث بلغ المتوسط السنوي للهجرة الخارجية بين عامي 2008 و2017، 72 ألف مهاجر مقابل 60 ألف مهاجر في الفترة الممتدة من 1975 إلى 1990 وذلك وفق دراسة منشورة عام 2019 لباحثين جامعيين.
معدلات البطالة مرعبة والآتي أخطر
​لكنّ الخوف الحقيقي يكمن اليوم في ظل هذا الإنهيار التام وإقتحام شبح الهجرة معظم البيوت اللبنانية. وفي هذا السياق تتحدّث أرقام متداولة عن حجز 250,000 لبناني تذاكر سفر ذهاب بلا عودة في حزيران 2020 أي قبل تاريخ فتح المطار. ويفسّر الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين إرتفاع معدلات الهجرة من خلال عاملين أساسيين يجتمعان اليوم، وهما تردي الوضعين الإقتصادي والأمني، مما يفاقم ظاهرة البطالة لصعوبة وجود فرص عمل، فينتهي الحال لا سيّما لدى الشباب بإختيار الهجرة ملجأً لتحقيق الطموحات.
وفي هذا السياق، يشير شمس الدين إلى معدل البطالة الذي يبلغ اليوم 32% ويصل الى 40% لدى فئة الشباب، مشدّدًا في حديثه على الكارثة الإجتماعية التي ستشهدها الأشهر القادمة إذا بقيت الظروف السياسية كما هي وإستمرت إجراءات الدول الخليجية والأوروبية على ما هي عليه، إذ تمنع هذه الإجراءات اللبنانيين من السفر جرّاء كورونا فتزيد نسبة البطالة لدى الشباب لتلامس في الأسابيع المقبلة 70% وفق توقّع شمس الدين.
ويختم حديثه مشيرًا الى غياب النظم الحكومية التي من شأنها أن ترعى العاطلين عن العمل وتعوضّ عنهم من خلال أُطُر رسمية كالمؤسسة الوطنية للإستخدام غير المفعّلة.
​ترهّل غير مسبوق للقطاع المصرفي
وفي معرض البحث عن الأسباب التي فاقمت هجرة الشباب اللبناني وجعلت من حقبة الحرب الأهلية حقبة أكثر طمأنينة للبنانيين، يتطرق رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق د. باتريك مارديني إلى القطاع المصرفي قائلًا: “إنّ الوضع اليوم أسوأ مما كان عليه خلال الحرب لأن الإنهيار لا يتوقف عند حدود إنخفاض سعر صرف الليرة وارتفاع سعر صرف الدولار، بل يصل درجة الإنهيار شبه التام للقطاع المصرفي”. ففي خضم الحرب الأهلية وعلى غرار اليوم، بقي الشعب اللبناني، وفق مارديني، قادرًا على سحب مدخراته من المصارف وبقي التداول بالعملة الصعبة. أما اليوم “فلا يستطيع المُدَّخر اللبناني الوصول إلى أمواله في المصارف، كما ولا يستطيع المحافظة على قدرته الشرائية نظرًا لهبوط سعر الصرف وخسارة اللبنانيين مداخيلهم لأن أغلبية الرواتب بالليرة اللبنانية”، بالتالي خسر المواطن اللبناني اليوم مدّخراته، ومدخوله، وبات يعاني من ركود إقتصادي حاد خَسَّرَ معظم اللبنانيين مصادر رزقهم، ومن لم يخسر عمله يرزح أيضًا تحت وطأة الأزمات التي هبطت علينا دفعة واحدة وجعلت من الذين عاشوا الحرب الأهلية يترحمون على أيام توفرت فيها السيولة رغم كل شيء.
ويختم مارديني حديثه مشيرا الى خطورة لامتناهية  في ظل التضخم المفرط الذي لا سقف له طالما انخفاض سعر صرف العملة يتواصل مجبرًا التجار وأصحاب المرافق على التسكير في ظل عدم قدرتهم على التسعير وإتخاذ معظمهم الخيار الأمثل المتمثل بالإقفال وعدم الرّبح عوضًا عن خيار الفتح والخسارة. فتكون المعادلة، وفق، مارديني: “لا إنتاج، يُوَلِّد صرفاً للعمال، فتكون نتيجة ذلك كارثية أشبه بنتائج رمي قنبلة نووية”.
تنذكر وما تنعاد ولكن
​أمام ذلك كلّه، يقف الشباب اللبناني متحسِّرًا على حاله في بلدٍ لم يبق فيه شيءٌ يردع الباحثين عن لقمة العيش والطامحين للمغادرة نحو المهجر المهجول.
شبابٌ ترعرع على أسطوانة “تنذكر وما تنعاد” أُعيدت أمامه عند كل حديث يدور في فلك الحرب الأهلية، ليكبر ويشعر اليوم بخوف الأهل والأجداد من الجوع والفقر، وتصبح المقولة التي ترافق الحديث عن الحرب الأهلية: “الله يرحم هيديك الإيام”. فما أبشع الموت في معركة لا ترى فيها القذائف ولا القنابل ولا المتاريس، حيث لا مكان للهدنة ولا قدرة على معالجة النزيف المالي والمعيشي. وحده العمل نحو الهجرة يشعرك بالأمن والأمل.