مرّ لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية منذ الحرب الأهلية ترجمت ميدانياً بتهافت على المصارف وانقطاع للدولار ووضع قيود على السحوبات والتحويلات، أو ما يعرف بالـ(Capital Control).
البعض يعتبر أن هذه الازمة لن تُحلّ عبر تأليف حكومة تكنوقراط أو عبر ضخّ بلدان عربية صديقة رؤوس المال في لبنان، ويذهب البعض أبعد من ذلك مقترحاً تدابير أقسى، بما فيها إخضاع حسابات عدد كبير من أغنياء البلاد لآلية “قص الشعر “Haircut والتي تعني عدم تسديد الدولة لمقرضيها كامل المبلغ المنصوص عليه في سندات الدين، وهو تعبير ملطف لما يعني عملياً محو الدولة لجزء من ديونها المستحقة للدائنين.
فما هي عملية “قص الشعر”؟ وبمَ تختلف عن إعادة هيكلة الدين؟ وهل يمكن اعتمادها في لبنان؟ مع الإشارة إلى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أكد أخيراً أنه “لن يكون هناك اقتطاع من الودائع. فمصرف لبنان لا يريد ذلك، وليست له صلاحية ليقوم بذلك”.
كما استبعد هذا الأمر الخبراء الذين تواصلت معهم “النهار”.
ليس ثمة تعريف موحد لعملية الـ”HAIRCUT”، إلا أن ثمة إجماعاً على أنها تشمل شطب جزء من قيمة أصول الودائع، أو سندات الدين، أو أي أصول أخرى، أو اقتطاعها. ويمكن أن تطبق عملية قص الشعر على سندات الخزينة عبر شطب جزء من دين الدولة، أو تجميد ودائع الزبائن من دون فوائد، وصولاً الى اقتطاع جزء من ودائع الزبائن خصوصاً اذا كانت هذه الودائع مستثمرة بسندات الخزينة.
وللإضاءة على المشكلة التي يعانيها لبنان حالياً، التقت “النهار” الخبيرين الكنديين الدكتور مايكل ووكر الذي شارك في عملية الإصلاح الاقتصادي في كندا وعدد من بلدان أميركا اللاتينية، وفرد ماكماهون الحائز على جائزة السير أنتوني فيشر الدولية لمساهمته في تقدم النقاش حول السياسات الاقتصادية، وذلك بعدما استضافهما المعهد اللبناني لدراسات السوق للإفادة من خبرتهما العالمية في حالات مماثلة.
بحسب الدكتور مايكل ووكر، “تفرض المصارف البنانية اليوم رقابة غير معلنة على رؤوس الأموال(capital control) وتضبط عمليات السحب وهي تالياً تتحكم بقدرة المواطنين على الوصول إلى احتياطي دولاراتها لعلمها بعدم توافر ما يكفي من الموارد في النظام المالي لتلبية حجم الطلب على الدولار. وفي وسط حالة الهلع التي يمر بها الجميع، لا ينبغي على الحكومة او المصرف المركزي فرض أي رقابة على رؤوس الأموال بأي شكل من الأشكال. فهذه الرقابة تنهار مع الوقت، وتؤدي إلى تعطيل النظام المالي. وعليه، يجب أن يتمحور النقاش حول ما هو مطلوب حتى يستعيد الشعب ثقته في النظام المالي والنقدي، بدل فرض رقابة على رؤوس الأموال، والتي تعني فقدان الأمل بإيجاد أي إمكان للمعالجة”.
فما هي الإجراءات الواجب اتخاذها في أحوال كهذه؟ القرارات، وفق ووكر، باتت معروفة للجميع وهي أن “تعترف الحكومة بأنها غير قادرة على معالجة الإهدار في إنفاقها وتحسين مدخولها، كما انه عليها التقليل من هذا الإنفاق وبأقل الطرق ضرراً على الشعب وبشكل لا يدعو للنقاش. وهذا ما سيساعد الحكومة في استرجاع ثقة المواطنين اللبنانيين والمجتمع الدولي الذي خفض قيمة سندات الخزينة اللبنانية ب30ـ% في هذه السنة وحدها”.
أما ماكماهون فاعتبر أن “عدم تسديد قسم من ديون الدولة (Haircut) يؤدي إلى حدوث خسائر فادحة، لأنها تفقد ثقة المستثمرين بالبلاد، ويمتنعون عن الاستثمار فيها وتمويل شركاتها. وبمعنى آخر، لا ينحصر الضرر بالخزينة بل يتعداه إلى الشركات والمؤسسات التي قد يكون لديها نماذج أعمال جيدة، والتي كانت لتنمو وتخلق ازدهاراً داخل لبنان لولا فقدان تلك الثقة. أما الحل الوحيد في رأيه فهو في “تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تبعث بالثقة عند المستثمرين في المستقبل، بدلاً من اللجوء الى “حلاقة الشعر”. فإذا استمرت الحكومة في الإنفاق أكثر بكثير مما تجنيه من عائدات ضريبية، فسيعود الوضع سريعاً إلى ما كان عليه من دون أن تحل أي من المشاكل. ويحتاج لبنان إلى سلسلة طويلة من الإصلاحات منها: تقليل وطأة القوانين التنظيمية بشكل يسمح للشركات بالنمو من دون معوقات وخلق فرص عمل، وإنشاء نظام قانوني يؤدّي إلى استعادة الثقة بلبنان. هذه الإصلاحات الواجب اتخاذها وفق ووكر بدلاً من الحيل ذات المدى القصير كالرقابة على رؤوس الأموال أو “حلاقة الشعر”، ومصادرة أموال المودعين التي لا تستطيع في أحسن حالاتها سوى تشكيل إبرة مسكن تعالج الوضع موقتاً قبل أن ينتهي مفعولها لتعود البلاد إلى مرضها الأول (الفساد). لذا فإن الحل الحقيقي، يتمثل بمعالجة المرض من جذوره لتحقيق نمو طويل الأمد مترافق مع هيكلية اقتصادية سليمة، لا تسكينه عبر حلول مزعومة قصيرة المدى”.
الطريق الخطير
وعلى عكس ماكماهون، لا يعتقد ووكر أنه يمكن حتى شراء الوقت عبر “حلاقة الشعر” ومصادرة أموال المودعين، “فقد خفضت الأسواق العالمية دين لبنان بنسبة 30% عما كانت عليه في بداية السنة، وإذا ما اقدمت الحكومة على حلاقة الشعر ومصادرة أموال المودعين، فإن توقعات الأسواق ستزداد سلبية على لبنان. وسيكتشف أنه لم يعد قادراً على طلب المزيد من الديون”. وفي هذا الجو السلبي، يعتقد ووكر أنه “من الصعب جداً إعادة جدولة الديون بشكل بشكل سليم”. ويعطي الأرجنتين مثالاً لتبيان مساوىء هذه السياسات الفاشلة. فقد بدأت اللعبة الإصلاحية في الأرجنتين بعدم تسديد قسم من ديون الدولة، وانتهت باستيلاء الحكومة الأرجنتينية على الحسابات المصرفية لمواطنيها، وذلك لأن الحكومة ازدادت استماتة كلما تقدمت في هذا الطريق، حتى انتهى بها المطاف إلى الاستيلاء على مقدرات الأرجنتينين كلها من أجل إعادة التوازن إلى الموازنة العامة”. ويستبعد ووكر أن أحداً في لبنان يريد خوض هذه التجربة المرة، ولكن بإمكان لبنان ان يصل في نهاية المطاف إلى وضع مماثل لما حدث في الأرجنتين، إذا ما استمرت الحكومة في سلوك هذا الطريق الخطير”، معتبرا انه حتى تلميح الحكومة بتشريع حلاقة الشعر او مصادرة أموال المودعين فكرة سيئة للغاية.
ويقترح ووكر “إعادة جدولة ديون لبنان الحالية بشكل يبطئ من وتيرة الدفع في مقابل تعهد الحكومة بتخفيف مصاريفها بشكل واضح وصريح، بحيث يتم التقليل من التمويل المفرط الذي يذهب لسد العجز. فلبنان اليوم يستدين لدفع فوائد ديونه المستحقة الأخرى”. وختم بالقول “وضع لبنان اليوم مرفوض وغير قابل للاستمرار، تماما كالأرجنتين، وتالياً لا نريد لبنان أن يصبح أرجنتين الشرق الأوسط”.
Haircut
تطبق عملية “قص الشعر” على سندات الخزينة عبر شطب جزء من دين الدولة، أو تجميد ودائع الزبائن من دون فوائد، وصولاً الى اقتطاع جزء من ودائع الزبائن خصوصاً اذا كانت هذه الودائع مستثمرة بسندات الخزينة.
إعادة هيكلة الدين؟
تطبق عملية إعادة اعادة هيكلة الديون في حال تعذّر الدولة عن سداد ديونها أو إفلاسها، ويمكن أن تأخذ وجوهاً عدة. إذ يمكن أن تطال تمديد أجل الديون المستحقة وتقسيطها على المدى الطويل، كما يمكن أن تصل إلى تخلف عن سداد قسم من الديون (قص الشعر) أو تخلف كامل (Default).
قيمة الحسابات المصرفية؟
92% من الحسابات المصرفية هي دون 100 ألف دولار، وأكثر من 95% منها دون 200 ألف دولار، وثمة 24 ألف حساب فقط من أصل 2.9 مليوني حساب هي فوق المليون دولار.
دين الدولة؟
يقدّر الدين الحكومي بنحو 85 مليار دولار، منه نحو 32 مليار دولار بالعملات الأجنبية، ويرتّب هذا الدَّيْن مدفوعات فائدة في الموازنة بقيمة 5.5 مليارات دولار، أي إنها تستنزف أكثر من ثلث الإنفاق العام ونحو نصف الإيرادات
إضغط هنا لقراءة المقال على الموقع النهار