تلتفّ بعض الوزارات على قانون “الشراء العام” بهدف إيجاد المنافذ التي تتيح لها تطبيقه بسطحية أو بـ “رفع عتب” كما يقال باللغة المحكية. ولذا نراها تهتم بالقشور والمظاهر وتتجاهل الجوهر والمضمون. ولا يعرقل ذلك الصفقات العمومية ويفوّت على الاقتصاد ملايين الدولارات فحسب، بل يزعزع الثقة بالأنظمة والقوانين ويحبط كل الجهود الداخلية والخارجية للانطلاق في ورشة الإصلاح الحقيقية.
وقد برزت خلال العامين المنصرمين، وتحديداً منذ 29 تموز 2022 (تاريخ بدء العمل بقانون الشراء العام)، محاولات بعض الوزارات الالتفاف على القانون. وقد برز ذلك من خلال عدم التزام هذه الجهات بواحدة أو أكثر من المتطلبات الثلاثة الأساسية التي يفرضها القانون للمحافظة على الشفافية في الصفقات العمومية، أو التزامها بشكل نسبي وبأقل من الحد الأدنى المطلوب لتحقيق الصالح العام. والمتطلبات الثلاثة هي:
- إعلان الجهات الشارية عن خطط الشراء السنوية: خصوصاً في الحالات المعروفة سلفاً.
- تحديد الفترة الزمنية لتقديم العروض. وقد حدد القانون المهلة بـ 21 يوما يمكن تخفيضها إلى 15 يوماً فقط في الحالات الاستثنائية.
- نشر المعلومات عن الصفقات المراد إبرامها على أوسع نطاق: بحيث يلزم القانون الجهة الشارية نشر المعلومات عن الصفقة على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام وعلى الموقع الإلكتروني لديها؛ متى وُجد.
ولعلّ من الجدير بنا، للخروج من النظرية إلى الواقع، ضرب أمثلة حسية وعرض بعض الخروقات التي قامت بها الجهات الشارية في الإعداد للصفقات وتبيان مدى الضرر الذي لحق بالمال العام ومصلحة المستهلكين وسمعة الاقتصاد.
ومن الأمثلة الفاضحة على عدم تقيد الجهات الشارية بجدولة مشترياتها خلال العام، يبرز مثال عدم تنظيم مؤسسة كهرباء لبنان جدول شحناتها من الفيول أويل لمعامل الإنتاج وترك عملية الشراء بيد وزارة الطاقة والمياه. والوزارة، كما هي عادتها، تنتظر حتى اللحظات الأخيرة لتنظيم مناقصات مخالفة للقانون بحجة خطر انفصال الشبكة وانقطاع الكهرباء بشكل كامل. وقد حصل ذلك بالحرف مع مناقصة كانون الأول من العام الماضي، التي عمدت فيها وزارة الطاقة إلى تخفيض مهلة الإعلان إلى الحدّ الأدنى، أي 15 يوما، بحجة ضرورة تأمين النفط قبل نفاد المخزون. عندئذ تقدمت ثلاث شركات، هي: Petraco وـ BBEnergy وـ Adnoc. وقد رُفِض عرض الأخيرة نتيجة إرساله بالبريد، وكان عرض Petraco تغطية -offre de couverture وكانت مستنداتها ناقصة أساساً؛ فرست المناقصة على BBEnergy. وقد أوصت هيئة الشراء العام عندها بإلغاء المناقصة لعدم مراعاتها الشفافية والقوانين ولأن المناقصة أصبحت أشبه بتلزيم بالتراضي.
وقد سبق لوزارة الاتصالات أن خالفت قانون الشراء في مناقصة تلزيم البريد. فعدا عن الخلل الجوهري في الصفقة المتمثل بتقديم تحالف Colis Privé France وـ MERIT INVEST لعرضٍ مبني على نيل الدولة اللبنانية حصّة من الأرباح المحققة، لا حصة من الإيرادات المُجمعة كما ينصّ بوضوح دفتر الشروط، لم تعمل وزارة الاتصالات على نشر التلزيم عالمياً لاجتذاب المزيد من الشركات المهتمة. إذ أقفلت الوزارة الباب أمام قبول إحدى الشركات بحجة أن مهلة التقديم انتهت قبل دقائق قليلة. ويُعتبَر كل ذلك بمثابة محاولة نستشف منها إعطاء أفضلية لشركة محددة على سائر الشركات الأخرى. وقد أدى ذلك إلى فشل ثلاث مزايدات واستمرار الوضع على ما هو عليه.
وأمام هذا الواقع، وفي حال صدقت النوايا، يمكن للجهات الشارية الطلب من وزارة الخارجية الإيعاز لممثليها في الخارج (من سفارات وقنصليات وبعثات دبلوماسية…) نشر دفتر الشروط على منصاتها لإتاحة المجال للمشاركة على أوسع نطاق ممكن. ذلك أن النشر المنفرد على الموقع الإلكتروني الذي يعود لهيئة الشراء العام لا يكفي.
ولعلّ من المطلوب أيضا عدم انتظار الجهات الشارية حتى اللحظة الأخيرة للإعلان عن صفقات الشراء وقبول أي عرض بحجة مداهمة الوقت. كما ينبغي أن تكون لدى الجهات الشارية إدارة مخاطر تضع البدائل المنطقية، خصوصا أن الصفقات معرضة للفشل لأكثر من سبب، وربما يخرج ذلك عن الإرادة الداخلية. وهذا ما يتكرر مليا في مناقصات الفيول التي من السهل جدا جدولتها على مدار الشهور، أي في مطلع العام.
أما بخصوص مدة إعلان المناقصات، فيجب ألا تقل بأي حال من الأحوال عن ٢١ يوماً. وهي تتطلب في بعض الحالات التي تعود للالتزامات الكبيرة أسابيع عدة إن لم يكن عدة أشهر. وتجدر الإشارة إلى أن الإعلان على أوسع مستوى وإعطاء الوقت اللازم وعدم الالتفاف على الصفقات يتيح أوسع مشاركة خارجية في الصفقات، الأمر الذي يؤمن التنافسية ويحقق الوفر للمال العام والمصلحة للمستهلك.
وللوقوف أكثر على ما نص عليه قانون الشراء العام فيما يتعلق بالبنود الثلاثة المذكورة أعلاه، نورد تفصيلا المواد والبنود التي أُدرِجت في قانون الشراء العام لضمان الشفافية:
هل تطبق الشفافية في قانون الشراء العام؟
لا تتحقق الشفافية قط من خلال نشر المعلومات عن الصفقة على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام وعلى الموقع الإلكتروني لدى الجهة الشارية متى وُجِد، بل ينبغي أن تكون المعلومات المنشورة منطبقة على ما يطلبه القانون، كاملة وذات صلة.
وغالباً ما تنشر الجهات الشارية الدعوة إلى المناقصة وتوفر دفتر الشروط الخاص بالصفقة ليطّلع عليه العارضون بالتزامن مع الدعوة إلى المناقصة أو الإعلان الفردي عن الصفقة. ولكن هل يسبق الإعلان عن كل مناقصة الإعلان العام عن خطط الشراء السنوية؟ وهل المندرجات الإلزامية للإعلانين منشورة أو متاحة بالفعل لاطلاع العارضين كما يفرض قانون الشراء العام؟
اولاً: الإعلان عن خطط الشراء السنوية أو البرنامج السنوي للمناقصات
تقتضي الإشارة بداية إلى خطط الشراء السنوية أو ما كان يعرف سابقا بالبرنامج السنوي للصفقات. إذ نصت المادة ١١ من قانون الشراء العام (وضع خطط الشراء) المعدلة بموجب القانون رقم ٣٠٩ تاريخ ١٩-٠٤-٢٠٢٣ والمرسوم رقم ١١٣٣٩ تاريخ ٢٩-٠٥-٢٠٢٣ في فقرتها الأولى على ما يلي: “يتعيّن على الجهة الشارية تحديد احتياجاتها وتحضير خطّتها السنوية عن العام المقبل تزامناً مع إعداد نفقاتها العامة بما يتوافق مع الاعتمادات المطلوبة في مشروع موازنتها. تُحضَّر الخطة السنوية للشراء بناءً على نموذج موحَّد وإجراءات تَصدُر عن هيئة الشراء العام. يمكن أن تكون الخطة سنوية أو متعدّدة السنوات في حال كانت تتضمَّن مشاريع يقتضي تنفيذها جدولة التزامات في إطار متوسط أو طويل الأمد، على أن تتضمَّن على الأقل المعلومات التالية:
أ- موضوع الشراء؛
ب- طبيعة الشراء (لوازم أو أشغال أو خدمات)؛
ج- مصدر التمويل والقيمة التقديرية بحسب الشطر، عند إمكانية إعلانه، وتنسيبه في الموازنة؛
د- وصف موجز لمشروع الشراء؛
ه- طريقة الشراء؛
و- التاريخ المُحتمل بالإشارة إلى الشهر في ما يتعلّق ببدء إجراءات التلزيم؛
ز- الشطر الذي تَقَع ضمنه القيمة التقديرية لموضوع الشراء؛
ح- الملاحظات والمعلومات المفيدة الأخرى التي من شأنها أن تساعد العارضين المحتملين على فهم وتحضير عروض جيدة وضمن المهل”.
كما أوجبت الفقرة الثانية من المادة ١١ من قانون الشراء العام على الجهات الشارية أن ترسل خطتها المكتملة إلى هيئة الشراء العام في مهلة شهرين من بدء السنة المالية. وتَعمَد هيئة الشراء العام إلى توحيد الخطط في خطة شراء سنوية موحَّدة ونشرها خلال مهلة ٣٠ يوم عمل. وقد استثنيت القوى الأمنية والعسكرية من التقيد بأحكام هذه الفقرة فيما يتعلق بالعقود التي تتسم بالسرية والمتعلقة بالأمن والدفاع الوطني..
وتبرز أهمية الالتزام بهذا الموجب في أن يشتمل الإنفاق على الشراء العام ضمن الإنفاق العام وأن يأتي في سياق الموازنات العامة وبما ينسجم معها. ولكن ذلك ينبغي ألا يعني عدم صدور البرامج السنوية أو خطط الشراء عند عدم صدور الموازنات العامة أو تأخر صدورها، لأن الموازنة تعد بمرحلة لاحقة لإعداد خطة الإنفاق السنوية، وليس العكس. وما إشارة نظام المناقصات السابق والملغى بموجب قانون الشراء العام إلى وجوب نشر البرنامج السنوي للمرة الثانية بصيغته النهائية بعد نشر الموازنة إلا دليل قاطع على أسبقية البرنامج السنوي للموازنة التي تعدّ على أساسه.
وتأتي أهمية خطط الشراء العام في نشرها أولا وفي بداية السنة المالية على أبعد تقدير، وفي أن يأتي مضمونها منطبقا على احكام قانون الشراء العام وشاملا لكل ما ورد فيه. ويكون العارضون تالياً على علم مسبق بها لتحضير خططهم للمشاركة في الصفقات العمومية للسنة المقبلة، كما يُعطى هؤلاء العارضون فرصا متكافئة في ظلّ منافسة كاملة فيما بينهم تضمن للجهات الشارية الوصول إلى شراء فاعل يحقق القيمة مقابل المال.
ويؤدي عدم نشر خطط الشراء في التوقيت والشكل والمضمون الذي يفرضه قانون الشراء العام إلى ضرب الشفافية والمنافسة والفرص المتكافئة، وهي قواعد ومبادئ معتبرة من الانتظام العام بموجب المادة الأولى من قانون الشراء العام.
ثانياً: الإعلان أو الدعوة إلى المناقصة العمومية
نصت المادة ١٢ من قانون الشراء العام تحت عنوان الإعلان عن الشراء في فقرتها الأولى على ما يلي:” تتم الدعوة إلى التنافس عبر الإعلان عن الشراء على المنصة الإلكترونيّة المركزيّة في هيئة الشراء العام وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بالجهة الشارية إن وُجِد. كما يعود للجهة الشارية أن تُقرِّر نشر الإعلان في أيّ وسيلة إضافية أخرى”. كما نصت الفقرة الثانية من المادة ١١ على أن تُحدَّد مدة الإعلان وفقاً لأهمية مشروع الشراء وتعقيداته على أن لا تقل في جميع الأحوال عن واحد وعشرين يوماً من الموعد الأقصى لتقديم العروض. ويمكن تخفيض مدة الإعلان إلى خمسة عشر يوماً عندما يتعذّر عملياً اعتماد القاعدة العامة، وذلك في ظروف استثنائية وبعد أن تُصدِر الجهة الشارية قراراً معلّلاً يحدِّد طبيعة هذه الظروف، على أن يُدوَّن التعليل في سجل إجراءات الشراء وفقاً للمادة 9 من قانون الشراء العام.
أمّا الغاية من الإعلان، فهي إيصال العلم إلى العارضين بإجراء المناقصة لتحضير عروضهم بما يمكنهم من المشاركة فيها لتأمين أكبر قدر من المنافسة وتكافؤ الفرص تحقيقا لمبدأ القيمة مقابل المال. وبعد الإعلان الأولي عن الصفقات العمومية بموجب خطط الشراء السنوية أو البرنامج السنوي للصفقات، وهو إعلان عام تمهيدي، يأتي الإعلان الفردي الخاص بكل صفقة. ولكي يحقق هذا الإعلان الغاية منه، لا بد من توفر شرطين أساسيين هما:
١.أن تكون مدته كافية للعارضين لتحضير عروضهم بالنظر إلى طبيعة الصفقة وتعقيداتها. وهنا يجدر التنويه بأن مدة الـ ٢١ يوما هي مدة الحد الأدنى القانوني وليست المدة القانونية. فبعض الصفقات، مثل بناء الجسور والمطارات والمعامل الكهربائية ومعامل معالجة النفايات، قد يستلزم تحضير عروضها ربطا بزيارات مواقع العمل خمسة أو ستة أشهر. كما يجدر التنويه أيضا إلى أن تخفيض مدة الإعلان إلى ١٥ يوما هو إجراء جد استثنائي تفرضه حالة الضرورة ولا يجوز اعتماده قاعدة.
٢.أن تكون مندرجات الإعلان كافية وملائمة وذات صلة بما يسمح للعارضين بتحضير عروضهم بعد الاطلاع على دفتر الشروط الخاص بالصفقة. وفي هذا الإطار نصت المادة ٥٠ من قانون الشراء العام تحت عنوان الدعوة إلى المناقصة العمومية على ما يلي:
“تتضمّن الدعوة إلى تقديم العروض المعلومات التالية:
أ- اسم الجهة الشارية وعنوانها؛
ب- ملخّصاً لأهم الأحكام والشروط المطلوبة في عقد الشراء، يَشمل طبيعة وكمية السلع المُراد توريدها ومكان تسليمها، أو طبيعة وموقع الأشغال المراد تنفيذها، أو طبيعة الخدمات والموقع الذي يُراد تقديمها فيه، وكذلك الوقت المرغوب أو الذي يجب أن يتمّ فيه توريد السلع أو إنجاز الأشغال أو تقديم الخدمات؛
ج- الأساس المُعتمَد لإجراء المناقصة؛
د- مُلخّصاً للمعايير والإجراءات التي تُستخدَم للتأكّد من مؤهّلات العارضين، ولأيّ أدلة مستندية أو معلومات أخرى يجب على العارضين أن يُقدّموها لإثبات مؤهلاتهم، بما يتوافق مع المادة 7 من هذا القانون؛
ه- قيمة ضمان العرض، في حال الانطباق؛
و- المكان وكيفية الحصول على ملفات التلزيم؛
ز- مكان وزمان الاطّلاع على ملفات التلزيم؛
ح- البدل الذي تتقاضاه الجهة الشارية عن ملفات التلزيم ووسيلة الدفع والعملة التي يُدفَع بها، إن كان لها بدل؛
ط- اللغة (العربية) أو اللغات التي تتوفَّر فيها ملفات التلزيم؛
ي- الجهة التي تودَع لديها أو التي توجَّه إليها العروض؛
ك- أُصول تقديم العروض ومكان ومهلة تقديمها بالساعة واليوم والشهر والسنة؛
ل- مكان وزمان فتح العروض على أن يُحدَّد الزمان بالساعة واليوم والشهر والسنة؛
م- جميع البيانات والمعلومات الإضافية التي تقرِّر الجهة الشارية إدراجها في الإعلان”.
وتُعتبَر من الأهمية بمكان جميع المعلومات المتعلقة بموضوع الشراء وشروط التعاقد المقترح بشأنه وكيفية إعداد العروض وتقديمها وتقييمها ومكان تقديمها وتقييمها وزمانه لتحضير عروض جدية متكافئة. أمّا تغييب أي من هذه المعلومات، فمن شأنه ضرب المنافسة وتكافؤ الفرص، إضافة إلى القيمة مقابل المال العام المنفَق، وهي مبادئ معتبرة من الانتظام العام وفقا لأحكام قانون الشراء العام.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق