الدولار بين رَفعِهِ جمركياً ورَفعِهِ مصرفياً

الدولار بين رَفعِهِ جمركياً ورَفعِهِ مصرفياً

في لبنان، لا يُنتج الفراغ سكوناً أو رجوعاً أو صَحوة ضَمير، بل مزيداً من الضَّوضاء والتخبُّط والتجاسر والاستكبار. الكلام هذا يَصحُّ في السياسة كما في الاقتصاد والمال والنَّقد. ليست جلسات الانتخاب الرئاسيّة المُخجلة والإصرار على إقرار الكابيتال كونترول والقرارات التنفيذيّة المُربَكة والمُربِكة للموازنة المَسيخة والابتذال والوقاحة في الدعوة لانعقاد مجلس الوزراء والتسويف في التعامل معها من قبل البعض والمغالاة في الحِرص على مصالح الناس إلا مثالاً حيّاً على ما تَقدَّم.

اقتصادياً، بعد أيام على نشر موازنة ٢٠٢٢ في الجريدة الرسميّة ودخولها حيّز التنفيذ، صَدَرَت قراراتها التنفيذيّة فأتت فارغة المَضمون والأهداف ومُلتبسة التَّوقيت كما الموازنة نفسها. ففي بلد العجائب والسوابق، تَهُمُّ الدولة بصرف رواتب القطاع العام مضاعفةً ثلاث مرات قبل توفير مصادر التمويل الفعليّة، وهذا يجعلنا نصل إلى حد النَّدم على القاعدة الاثني عشرية التي أراد أحدهم نشرها في العالم تَعليماً بعد “الحَرف”. أما مصدر التمويل المَزعوم، فزيادات على الضرائب والرسوم تحت مُسمّى “زيادة سعر الصرف الرسمي” إلى ١٥٠٠٠ ليرة. فالضرائب والرسوم، إن كانت تلك المستوفاة على الاستيراد أو المقتطعة من المداخيل، تبقى إمّا “دفتريّة” أو “استنسابيّة” ما دام الاقتصاد لا يسجّل نموّاً وما دام التَهَرُّب والتَّهريب هما القاعدة وليس الاستثناء. كيف لـ”شِبه دولة” منافذها البرية والبحرية والجوية مفتوحة على التهريب وتفتقد سيادة سلطة القانون وسير العدالة لألف سبب وسبب أن تفرض ضرائب جديدة وأن تؤمن تحصيلها؟ لن تُجبى الضرائب الجديدة إلا مِمَّن كان يدفعها أصلاً وهي لن تطال في أي حال من لا قيود لهم ولا حدود، وهم كُثُر. إلا أنَّ الأخطر يَكمن للأسف في كون السُّلطة نفسها أحد أسباب الفوضى الحاصلة إذ لم تنهِ الوزارات المَعنيّة بعد إعداد جداول الإعفاءات كما لم تتَّضِح فَذلكات الضرائب على المداخيل وانعكاساتها على الضريبة على القيمة المضافة برغم الإنكار.

في موازاة التَّخَبّط المالي الذي تَعكِسُهُ الموازنة في غياب الرؤية والبَصيرة ومُعاكسة المَنطِق، أعلن المصرف المركزي عَزمه على رفع الدولار المصرفي إلى ١٥٠٠٠ ليرة أيضاً في خطوةٍ تتشابه فيها الأرقام وتَختلف التَوجُّهات فيما يبقى الهَدَف واحداً: الإمعان في شراء الوقت بأغلى الأثمان بهدف هَدرِه. في الشكل، لا تعدو زيادة قيمة “اللولار”، وهو مُنتج هَجين لَقيط أفرزه الانهيار، سِوى كونها خطوة “إيحائيّة” تُجَسّد زيادةً افتراضية وغير حقيقيّة لبعض المداخيل مقابل زيادة سافِرة للضرائب. أمّا في المضمون، فَرَفعُ قيمة الدولار المصرفي لا يؤمّن استعادة المودعين لجزء أكبر من ودائعهم بقدر ما يُقَلِّص بشكل طفيف جداً، بل لا يُذكر، هامش خسارتهم.

تُحَتّم زحمة المواعيد بين الأوَّل من كانون الأول والأوَّل من شباط النظر إلى تأثير رفع الدولارَين الجمركي والمصرفي على سعر الصرف. قد يساعد ارتفاع الأسعار التي سَبقت ورافقت اعتماد سعر الصرف الجديد على امتصاص جزءٍ مهمٍ من حجم الضخّ الموعود بالليرة. إلا أن زيادة الحاجة إلى العملة الوطنية مِن جهة وغياب “مضاعف الائتمان” الناتج عن غياب التسليف والتركيز على “تدوير الكتلة النَّقديّة” نفسها من جهة ثانية، لا يُمكنهما وحدهما تأمين استقرار سعر الصرف. قد يَنجح المصرف المركزي من خلال تدخله “المحدود” بفرملة أو تأخير ارتفاع سعر الصرف وقد تعاونه في ذلك المصارف عبر خفض سقوف السحوبات. في هذه الحال، قد يكون لسعر الصرف منحىً تصاعديٌ بوتيرةٍ بطيئة أو ارتفاعاتٌ متباعدة زمنياً تَفصِل بينها فتراتٌ من المراوحة الهَشّة. إلا أنَّ كل ذلك لن يمنع سعر الصرف من التفلُّت إن راوَحَ الانهيار أو طال الفراغ أو تزعزع الاستقرار أو حتى إن أراد من يتحكم بالسوق الموازية اللهو أو العَبَث. فكل المعالجات والابتكارات لا تَرقى إلى مستوى الحلول لكونها تُرَكّز على نتائج الأزمة متناسيةً أسبابها عمداً أو سهواً.

في المُحَصّلة، لن يُشكِّل الدولار الجمركي مصدراً لتأمين تمويل الرواتب كما لن يُسهم رفع سعر الدولار المصرفي بِرَفع الظلم عن المودعين.

وفي “هَجعة” الفراغ تذوب أموال المودعين وآمالهم ويَبقى “الهيركات” سيّد الموقف إلى أجلٍ غير مسمّى.

أما الهدايا، “فَمسمومة” كَمِثلِ نفوس مُعِدّيها ومُسوقيها أو “فارغة” كَمِثلِ عقولهم…

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار