تتدافع الإستحقاقات المصيرية في لبنان الواحد تلو الآخر، فمن الانتخابات النيابية، وما تلاها من تصريف اعمال حكومي فرمل الجهود المطلوبة لبناء ركائز للإنقاذ الموعود، وما بينهما من الصراع الملتبس على “كاريش” و”قانا” والـ29، والرسائل السياسية والأمنية الساخنة والمتبادلة بين “حزب الله” والحكم من جهة، والعدو الاسرائيلي من جهة أخرى، اضافة الى أزمة الكهرباء التي تحشر الجميع في زوايا الحرج والخوف من العتمة الشاملة، ناهيك عن فقدان الخبز وانقطاع الماء والدواء، وشلل مؤسسات الدولة بعد توقفها عن العمل بسبب الإضراب المستمر للقطاع العام.
لكن الإستحقاق الأهم والمصيري الذي يدهم حياة اللبنانيين اليوم، هو الاتفاق المرتجى مع صندوق النقد الدولي، الذي يعاني مثل غيره من الاتفاقات أو المشاريع الحكومية، من تشتت المواقف الرسمية حياله، وضبابية مندرجاته، والصراع على أبوّته، أو التنكر لها، اضافة الى تعدد الرؤى حول جدوى السير به، أو إقراره بصيغته الحالية، وما هو الهامش المتاح أمام ممثلي الأمة لتغييره أو تعديل بعض فقراته.
بين الحكومة ولجنة المال والموازنة في المجلس النيابي، خطوط تماس، لا هدنة، كذلك لا اتفاق، ووقف النار المتقطع حول المشاريع التي يطالب الصندوق بها، لم تحقق السلام الدائم حول الاتفاق. فالأخير يطالب الدولة بإلحاح بإقرار الموازنة العامة، و”الكابيتال كونترول”، وتعديل قانون السرية المصرفية، وكذلك الشروع بهيكلة المصارف، ورفع التعرفة على الكهرباء، والدولار الجمركي، وغيرها من المشاريع المشروط إقرارها قبل الحصول على أي مساعدة من الصندوق أو من المؤسسات الدولية الأخرى والدول الصديقة والشقيقة. أما الحكومة فتدّعي أنها أدت قسطها للعلى، والكرة في المجلس النيابي، لكن النواب يدّعون أن لا نصوص نهائية بحوزتهم، وخصوصا “الكابيتال كونترول” الذي تعددت مشاريع القوانين حوله والتي احالتها الحكومة على المجلس، فمن يملك الحقيقة؟
نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي قال لـ”النهار” أن اي تعديلات جوهرية على مشاريع القوانين قد تعوق التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، مستندا الى ما سبق وحصل من تأخير في قرض البنك الدولي المتعلق بمساعدة العائلات الاشد فقرا، بسبب التعديلات التي أجراها مجلس النواب على مشروع القانون والتي لم تكن مقبولة من البنك الدولي، فتأخر المشروع نحو سنة في انتظار انجاز التعديل على التعديلات.
وإذ أكد ان مجلس النواب سيّد نفسه، أوضح الشامي أنه “يمكن اجراء تعديلات تتوافق مع القوانين الدولية، شرط ألّا تمس التعديلات بالامور الجوهرية في مشاريع القوانين التي قدمناها، حتى لا تؤخر الاتفاق مع الصندوق”.
ولفت الى ان مشروع قانون “الكابيتال كونترول” الذي ارسلته الحكومة الى مجلس النواب قبل الانتخابات النيابية بنحو شهر ونصف شهر “لم ينجز بعد، فيما تأخرت الحكومة في ارسال مشروع قانون السرية المصرفية”، متمنيا انجاز هذه المشاريع في مجلس النواب في أسرع وقت ممكن “لكي ننجز الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي”.
من جهتها، تحاول لجنة المال والموازنة من خلال التعديلات التي وضعتها على مشروع قانون السرية المصرفية الذي احالته الحكومة على مجلس النواب، وضع الضوابط للحد من السلبيات التي يتخوف منها البعض، على ان تعقد اللجنة اجتماعا الاثنين المقبل للبت بالتعديلات. ووفق ما قال رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابرهيم كنعان لـ “النهار”، فإن “الاتفاق مع صندوق النقد يتحكم في المرحلة الحالية بالمسار المالي والاقتصادي وحتى السياسي، وبما ان خيار الاتفاق مع الصندوق هو خيار اساسي يجب محاولة السير به في نهاية المطاف، فثمة ضرورة برأيي لخطة متكاملة تلحظ مشاريع القوانين الأساسية الاصلاحية التي يفترض ان تطرح بشكل مترابط لخدمة الهدف الذي وُضعت من اجله، اي انقاذ لبنان واستعادة الثقة بدولته ومؤسساته وقطاعه الخاص حتى يستطيع الخروج من ازمته والنهوض من جديد”. واكد ان ما تدرسه لجنة المال هو “مشروع وضعته الحكومة، خصوصا انه بعد 3 سنوات من الانهيار لم يحصل ان وُضعت أمام مجلس النواب خطة متكاملة تحفظ حقوق المودعين وتستعيد الثقة الدولية والمحلية”.
ولحظت التعديلات التي أدخلت على قانون سرية المصارف توسيع قاعدة رفع هذه السرية لتشمل، اضافة إلى “الإذن الخطي من صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم أو إذا أعلن إفلاسه أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها”، لتشمل مراجع رسمية أخرى جرى النص عليها في تعديل المادة السابعة من القانون، كما سيرد لاحقا.
كما أن القانون، كما تم تعديله، لا يحظر الخزائن الحديد والحسابات الرقمية وانما اخضاعها للامتثال والتدقيق بموجب القانون 44/2015 بل أضيف نص يرمي إلى “إخضاع فتح هذه الحسابات وتأجير الخزائن للإجراءات ذاتها المعتمدة في فتح الحسابات العادية لجهة أنموذج فتح الحساب واستطلاع رأي دائرة الامتثال في المصرف” من جهة، وإخضاع كل عملية إيداع فيها أو تحويل إليها لإجراءات التدقيق المقررة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب” 44/2015، وذلك كي لا تتحول هذه الخزائن او الحسابات المرقمة الى باب لممارسة اعمال غير شرعية مثل تبييض الاموال او تمويل الارهاب او التهرب الضريبي او الفساد.
كما تم تعديل النص المتعلق بعدم جواز إلقاء الحجز على أموال وموجودات الزبائن في المصارف إلا بإذن خطي من أصحابها، ليصبح كالآتي: “إمكانية تجميد هذه الأموال والموجودات وحجزها” في حالة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب من جهة، وفي حالة جرائم الفساد والإثراء غير المشروع، من جهة ثانية.
ووُضع موضوع السرية المصرفية، خلال المناقشة في لجنة المال، ضمن اطار تشريعي يتناغم مع الحاجة الى شفافية أكبر بالنسبة الى مكافحة الفساد، حيث لحظت التعديلات التي أجرتها لجنة المال ربط موضوع إلغاء السرية المصرفية بالاثراء غير المشروع. وهذا الامر هو مطلب وطني جامع، وتم تحديد الجهات التي يحق لها طلب رفع السرية، اي القضاء والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهيئة التحقيق الخاصة والإدارة الضريبية.
وبعدما كان رفع السرية المصرفية متاحا للسلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع فقط، جرى توسيع نطاق الحالات التي تُرفع بها السرية وتوسيع عدد المراجع التي يحق لها طلب رفع السرية المصرفية، فأصبح رفع هذه السرية متاحا:
– للقضاء المختص في دعاوى الفساد والجرائم المالية ودعاوى الإثراء غير المشروع.
– هيئة التحقيق الخاصة في ما خص مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
– الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ما خص مكافحة الفساد استناداً إلى قانون إنشائها.
– الإدارة الضريبية بهدف مكافحة التهرب الضريبي استناداً إلى قانون الإجراءات الضريبية.
وحتى لا يتحول موضوع الغاء السرية المصرفية الى استنسابية او كيدية تم وضع بعض الضوابط مثل ان “لا تحول أحكام قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 دون قيام أي إدارة أو أي موظف من موظفي المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف بواجباتهم. كما يمكن للجنة الرقابة على المصارف والمصرف المركزي الطلب من المصارف تقديم معلومات محمية بالسرية المصرفية، على ان تحدد دقائق تطبيق هذه المادة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المال وبعد استطلاع رأي المجلس المركزي لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف”.
كما جرى تعديل المادة 23 من قانون الإجراءات الضريبية بما يتيح تعزيز الامتثال الضريبي من جهة والكشف عن التهرب الضريبي من جهة ثانية، ويحصر صلاحية تحديد دقائق التطبيق بمجلس الوزراء بصفته المرجع المسؤول أمام السلطة التشريعية.
تعديلات على “السرية المصرفية” وربطها بالإثراء غير المشروع… الشامي لـ”النهار”: نأمل أن لا تمسّ التعديلات الجوهر
