أظهرت الاستحقاقات النيابية الأخيرة أن النواب التغييريين يجتمعون على مبادئ ديموقراطية ليبرالية لكنهم يختلفون على التنظيم الحديدي للأحزاب التقليدية التي تغيِّب الدور الفردي للنائب وتحوّله إلى رقم بيد زعيم الحزب يجيّره كما يحلو له. فالتغييريون هم أقرب إلى الأحزاب الغربية التي تَجمع ممثليها على أساس مبادئ مشتركة، لكنها لا تملك سلطة الأمر عليهم، علماً أنه حتى في تلك الأحزاب يصوّت نواب التكتل الواحد بالاتجاه نفسه، وهو ما يعطيهم تأثيراً أكبر. ويواجه البرلمان اللبناني الجديد اليوم استحقاقات اقتصادية مفصلية، أهمها تقرير مصير أموال المودعين والشركات المملوكة من القطاع العام والموازنة العامة والليرة. لذا، تتجه الأنظار إلى التغييريين وتكثر التساؤلات حيال قدرتهم على طرح خيارات تغييرية جدية يشتهيها ناخبوهم.
البرامج الاقتصادية لكل النواب متشابهة، تغييريين كانوا أم نواباً جدداً، مع اختلاف في بعض التعابير، إذ يأمل هؤلاء جميعا في إحداث تغيير ما في المشهد الاقتصادي. فبرنامج “تقدّم” الذي يضم النائبين مارك ضو ونجاة صليبا، يسعى الى وقف الانهيار المالي كخطوة أولى عبر توحيد سعر الصرف، وإقرار قانون “كابيتال كونترول” والبدء بتطبيق خطة لهيكلة القطاع المصرفي والمالية العامة تسمح بتوزيع الخسائر على نحو عادل يحمي صغار المودعين ويحمّلها أولا لأصحاب المصارف. ويلحظ البرنامج أيضاً انشاء صندوق لادارة الثروة العامة “يشكل أساس الصمود لمنح الشعب اللبناني امكان المواجهة، على أن يكون مجلس ادارته مؤلفاً من ممثلين عن المودعين، نقابات المهن الحرة، الاتحاد العمالي والحكومة، ويدير هذا الصندوق خبراء دوليون، على ان يكون تمويله من ارباح شركات الخليوي، وأوجيرو، والميدل ايست، وبنك انترا، ومرفأ بيروت ومرفأ طرابلس. اما ايراداته فيذهب 70% الى 80% منها الى الحماية الاجتماعية (صحة، ضمان شيخوخة، تعليم رسمي). وما بين 20 الى 30% لاعادة اموال المودعين”.
ويشدد رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني على أهمية “أن لا يغرق التغييريون في وحول الخيارات المطروحة حاليا، والتي لا ترتقي إلى مستوى الأزمة. ففي ملف أموال المودعين مثلا، أوضح مصرف لبنان أن الحكومة أجبرته بين العامين 2010 و2021 على تكبّد خسائر بلغت 62 مليار دولار صرفتها على الكهرباء والنفقات التشغيلية للحكومة وسياسة الدعم وبعض الفوائد المتوجبة عليها وغير ذلك من النفقات. ويتم حصر الجدل اليوم في طريقة توزيع هذه الخسائر؛ فتتنصل الحكومة من مسؤوليتها وتفضل تحميل الخسائر للمصارف عبر شطب رأس مالها وللمودعين عبر الهيركات على الودائع التي تفوق 100 أو 150 ألف دولار. وفي المقابل، تسعى المصارف إلى تفادي شطب رأس مالها وتفضل إحالة خسائرها إلى المودعين عبر “تليير” السحوبات، وتعمل بالتوازي على إقناع القطاع العام باستعمال أصوله لسداد متوجباته”.
وينصح مارديني التغييريين “بعدم الانجرار من الأساس وراء لعبة توزيع الخسائر التي ستؤدي في جميع الأحوال إلى تكبيد أبرياء فاتورة عقود من فساد السلطة. فقبل الحديث عن توزيع الخسائر، ينبغي التوقف عند خسارة أموال المودعين المتبقية في احتياط مصرف لبنان، لأن الخسائر تكبر يوماً بعد يوم والاحتياط يتآكل. وكذلك ينبغي وضع ضوابط وضمانات مؤسساتية، عبر إصلاح قانون النقد والتسليف، تمنع العودة إلى نهج خسارة أموال المودعين مستقبلا، فنكون قد تعلمنا الدرس من الأزمة. وإضافةً إلى ما تقدّم، يظلم تقييم الخسائر في خضم الانهيار المودعين والمصارف على حد سواء لأنه يضخّمها نسبة الى الناتج المحلي؛ وفي المقابل، تسمح عودة النمو بتصغير هذه الخسائر على الجميع. من هنا ينبغي إعادة ترتيب أولويات خطة التعافي بحيث تبدأ بوضع ضوابط على السياسة النقدية تمنع تكرار الخسائر وتؤمّن الاستقرار وإعادة النمو قبل البحث في كيفية توزيع هذه الخسائر”.
وفي ما يخصّ الشركات المملوكة من القطاع العام، ينصح مارديني التغييريين “بالانقلاب على الخيارات المطروحة لأن جميعها اختُبِرَت وأثبتت فشلها. وإذا ما بقيت هذه الاحتكارات في يد القطاع العام كما طرح رئيس الحكومة، يستمر السياسيون في التحكم بها وتجنيدها لخدمة مصالحهم الخاصة، فيجرون فيها توظيفات زبائنية ويعقدون صفقات تشوبها شبهات الفساد والسمسرات كما جرت العادة. وفي حال تم نقل هذه الاحتكارات إلى القطاع الخاص (عبر الشراكة أو الخصخصة أو الصندوق السيادي)، فستستمر هذه الاحتكارات في التحكم برقاب الناس. فقد فشلت سياسة تسليم الاحتكارات إلى إدارة خاصة في قطاع الخليوي مثلاً، والذي كان، حتى قبل الأزمة، يفرض أسعاراً باهظة على المواطن لقاء خدمة متواضعة. كما تسببت الشراكة مع القطاع الخاص في الكهرباء (البواخر التركية ومقدّمو الخدمات) بخسارة كميات كبيرة من الفريش دولار، ناهيك عن المشاكل الأخرى”.
ويضيف أن “المشكلة تكمن في الاحتكار سواء كان عاماً أم خاصاً، مع صندوق سيادي أو بدونه. وعليه ينبغي التمييز بين الشركة والقطاع الذي تعمل فيه، فتبقى الشركة (كهرباء لبنان أو أوجيرو أو غيرها) مملوكة من الدولة التي تضع أطراً لإصلاحها أو نقل إدارتها إلى القطاع الخاص، مع رفع المشرّع بالتوازي القيود الموضوعة أمام دخول شركات أخرى إلى هذه القطاعات. عندها تنشأ شركات كهرباء خاصة جديدة إلى جانب كهرباء الدولة، تنتج وتبيع كهرباءها للمواطن، وشركات اتصالات إلى جانب أوجيرو تبني شبكاتها الخاصة من مالها الخاص، وشركات طيران إلى جانب طيران الشرق الأوسط يحق لها تسيير رحلات مباشرة من لبنان وإليه. ويحافظ هذا الخيار على ملكية الدولة لشركاتها، لكنه يعطي المواطن اللبناني في الوقت نفسه خيار شراء خدماته من مصادر متعددة بدل أن يلزمه حكامه بعرض وحيد”.
وتسعى الاصطفافات السياسية التقليدية إلى استمالة التغييريين عبر تقييدهم بخيارات محددة أحلاها مُر. لكن الخيارات واسعة في كل ملف ويمكن للتغييريين توسيع أطر النقاش وطرح خيارات جديدة ترتقي إلى مستوى الأزمة، فينقلون النقاش من كيفية توزيع الخسائر إلى تحديد التوقيت الأمثل لهذا التوزيع، ومن كيفية إدارة احتكارات الدولة إلى كيفية تفكيك هذه الاحتكارات وإعادة سلطة الخيار إلى المواطن. ولعل نجاحهم في الملفات الاقتصادية يسمح لهم بقلب الطاولة وبجذب حلفاء يتعاونون معهم على تمرير إصلاحات ضرورية للبنان وغير واردة حاليا في ظل الاصطفافات التقليدية.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار