يعتزم مصرف لبنان تقليص دعم بعض السلع الأساسية، للحفاظ على ما تبقى من الاحتياطي النقدي للبلاد لنحو ستة أشهر أخرى، في ظل ما تشهده البلاد من أزمات اقتصادية كبيرة تلقي بعاتقها على كاهل المواطن اللبناني.
وفي 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، قال مصدر رسمي لـ”رويترز”: إن لبنان لديه نحو 1.8 مليار دولار في احتياطياته من النقد الأجنبي يمكن إتاحتها لدعم واردات غذائية أساسية وواردات أخرى، لكنه قد يحافظ على بقائها لنحو ستة أشهر أخرى عن طريق إلغاء دعم بعض السلع.
ويقول حاكم مصرف لبنان المركزي، رياض سلامة، الذي رفض الإدلاء بتعليق على تقرير “رويترز”: إنه سيتعين وقف الدعم فور الوصول إلى حد احتياطيات النقد الأجنبي الإلزامية، وذلك دون الإشارة إلى إطار زمني.
وفي ظل نضوب الموارد الدولارية، وفر البنك المركزي نقدا أجنبيا لواردات الوقود والقمح والأدوية بسعر رسمي مربوط عند 1507.5 ليرات لبنانية مقابل الدولار، وهو ما يقل كثيرا عن السعر المتداول الذي يقول متعاملون إنه بلغ نحو 8700 ليرة في منتصف أكتوبر/تشرين الأول.
كما أنه يجري دعم قائمة تضم نحو 300 سلعة غذائية وأساسية أخرى عند سعر 3900.
وفي 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، اعتبر رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية حسان دياب، أن “الخسائر باستمرار الدعم، أقل خسارة من رفع الدعم، وحبذا لو أوقف مصرف لبنان (البنك المركزي) تمويل سياسات الهدر من أموال المودعين” دون توضيح.
وأوضح دياب أن التوجه لرفع الدعم “غير مقبول في هذه الأحوال، وأي خطوة من مصرف لبنان لرفع الدعم، يتحمل هو مسؤوليتها، مع كل الذين يغطون هذا القرار”، دون تسميتهم.
وأضاف: “لا لرفع الدعم عن الدواء والطحين والمحروقات، ويمكن اعتماد قاعدة الترشيد ليستفيد المحتاجون، لأن إلغاء الدعم سيؤدي إلى نتائج كارثية، ودائع اللبنانيين يجب أن تعود إليهم، وهذه مسؤولية المصارف ومصرف لبنان والدولة”.
دعم مُهرب
ومن المفترض أن يدفع رفع الدعم عن السلع المستوردين لتأمين الدولار من السوق السوداء لاستيرادها مع ما يرسمه هذا الأمر من سيناريو خطير جدا على مستقبل سعر صرف الدولار، كونه سيزيد الضغط الكبير والطلب الواسع على العملة الصعبة، وسط قلة العرض.
وهذا يعني ببساطة ارتفاع الأسعار الأساسية والاستهلاكية بشكل كبير جدا يجعل لبنان أمام خطر الانفجار الاجتماعي من خلال زيادة الفقر وتراجع المستوى المعيشي للفرد.
إلا أن الخبراء الاقتصاديين يرون أن هذا الأمر هو حاصل بالفعل، فالتجار الذين يحصلون على الدولار بسعر 1515 ليرة للدولار من أجل استيراد السلع الرئيسية بأسعار مدعومة على المستهلك المحلي يقومون بتهريب تلك البضائع إلى الخارج لبيعها بسعر مرتفع أو بيعها في السوق السوداء بأسعار مرتفعة وغير مدعمة.
مما يعني أن هذا الدعم لا يصل إلى المستحقين، وبالتالي يطالب المختصون بإلغاء الآلية الحالية وتوفير طريقة بديلة دون إلغاء الدعم.
وبحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، فإن نسبة كبيرة من الدعم يتم إهدارها ولا يستفيد منها الشعب اللبناني.
وقال لـ”الاستقلال”: إن “سياسة الدعم الحالية تسير من خلال منح الدولة دولارات للتجار لشراء سلع مدعومة، من أجل أن يقوم التجار ببيع تلك السلع للمواطنين بسعر منصف، إلا أن التجار لا يفعلون ذلك بل يهربون السلع إلى بلدان تبيع السلع بسعر غير مدعم، ما يعظم أرباحهم”.
وأضاف مارديني أن تلك السلع تهرب إلى سوريا والعراق وغيرها من الدول، وبالتالي “هذه السياسة تهدر الكثير من الأموال”.
وفي 8 سبتمبر/ أيلول، أشار نقيب مستوردي المواد الغذائية، هاني بحصلي، لـ”العربية نت”، إلى “أن أي سلعة غذائية في السوق يكون سعرها أقل من السعر العالمي ستُهرّب حتما إلى الخارج، وهذا ما يحصل في لبنان”.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي، نسيب غبريل، أن هذا الدعم له تداعيات سلبية كونه يدعم الشركات المستوردة والتي تخزن بعض المواد التي تستوردها أو تهربها بدلا من توزيعها بالكامل.
وأشار غبريل، لـ”الاستقلال”، إلى أنه وفقا لتلك المعطيات، يدرس مصرف لبنان البطاقات التموينية أو الذكية من أجل توزيعها على العائلات الفقيرة والمحتاجة فقط، بالإضافة إلى تخفيف الدعم عن بعض المنتجات والسلع الكمالية وغير الضرورية، مما يتيح له الاستمرار في دعم السلع الرئيسية أطول فترة ممكنة.
بدائل مطروحة
ويخشي اللبنانيون رفع الدعم عن السلع دون أن تقابله آلية عملية وواضحة لمساعدة الطبقة الفقيرة والتي بلغت نسبتها نحو 60% من إجمالي الشعب.
وفي 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، توقع صندوق النقد الدولي أن يصل تضخم أسعار المستهلكين هذا العام عند 85.5%، ارتفاعا من تقدير أبريل/نيسان بتضخم نسبته 17%.
ويرى الخبراء أن هناك العديد من البدائل التي يمكن العمل بها من أجل خلق آلية سليمة للدعم لا تضر بالوضع الاقتصادي الراهن شريطة، ولكن تبقى تلك الأطروحات مرهونة بوجود حكومة اختصاصين قادرة على اتخاذ قرارات حتمية للخروج من الأزمات الاقتصادية التي أدت في النهاية إلى تراجع الاحتياطي الأجنبي وعدم قدرة البلاد على دعم السلع للمواطنين.
ويرى مارديني، أن على الدولة وقف آلية الدعم الدولارية الحاصلة على جميع السلع. فعلى سبيل المثال بدلا من أن يتم دعم الدواء يمكن أن تقوم وزارة الصحة من خلال الضمان الاجتماعي بمنح المال اللازم بالليرة اللبنانية للمريض المستحق من أجل أن يشتري دواءه بنفسه وبالتالي بدلا من دعم الصيدليات وتهريب الدواء يتم دعم المريض مباشرة.
وأكد النقابي في الكونفدرالية العامة الإيطالية للعمل CGIL، أنسو بارتسيالي، في حديث لـ “الوكالة الوطنية للإعلام”، أنه “على الدولة في لبنان أن تقدم دعما مباشرا للعاملين يضاف على ورقة الراتب الشهري، كما عليها تقديم دعم مالي مباشر للعاطلين عن العمل عبر مؤسسات مالية صارمة تتحقق من دخل المواطن وتفرض عقوبة شديدة على المخالفين”، مشيرا إلى أن “وجود المال في أيدي المواطنين يحرك الدورة الاقتصادية”.
وأوضح بارتسيالي: “في لبنان يجب أن يشمل الدعم الذين يقل دخلهم عن 800 دولار شهريا وإيجاد آلية صارمة لمراقبة أسعار السوق، تشجيع الصناعة الوطنية، بعد ذلك ستهبط الأسعار بفضل المنافسة بين الشركات”.
بينما أشار غبريل، إلى أن بيروت تملك ذهبا في مصرف لبنان تبلغ قيمته نحو 17.5 مليار دولار، “وبالتالي يمكن أخذ خط ائتماني مقابل قسم من هذا الذهب بنحو 5 أو 6 مليارات دولار مما يضمن استمرار الدعم”.
الفرصة الأخيرة
في خضم تلك الاضطرابات الاقتصادية يأتي فشل رئيس الوزراء المكلف مصطفى أديب في تشكيل الحكومة ليؤزم الوضع الاقتصادي المنهك والسياسي المعقد في لبنان.
ويعتقد مارديني أن فشل تشكيل حكومة مصطفى أديب أو فشل المبادرة الفرنسية يعد آخر فرصه للبنان، مشيرا إلى أن الفرنسيين طالبوا القوى السياسية بضرورة تنحية الخلافات السياسة بشكل مؤقت والعمل على دعم المبادرة الفرنسية بتشكيل حكومة اختصاصيين تعمل على إصلاح المرفأ والكهرباء والاتصالات والسياسات النقدية بالمصرف المركزي.
وأوضح، أن المبادرة الفرنسية تهدف إلى جلب الشركات الأوروبية لكى تساهم في تلك الإصلاحات، مما قد كان سيساهم في ضخ استثمارات كبيرة تؤدي إلى تحريك العجلة الاقتصادية سواء على المدى القصير.
ونوه أن فشل تشكيل الحكومة أدى إلى زيادة سعر الصرف من 7 آلاف ليرة للدولار إلى 8000 و8500 للدولار واستنزاف الاحتياطي الأجنبي بشكل سريع، وبالتالي يمكن القول بأن مستقبل لبنان غامض وأنه مقبل على أزمة طويلة نتيجة أن بيروت لا تبذل أي مجهود في العمل على الإصلاحات الاقتصادية.
وتابع: “لم نصل إلى القعر بعد ولكن نسير نحوه بسرعة إلا أنه في حال الوصول إليه لن يستطيع لبنان الصعود مرة أخرى بسهولة”.
وتوقع صندوق النقد الدولي في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أن يشهد الاقتصاد اللبناني أحد أكبر الانكماشات في المنطقة هذا العام عند 25 %.
كما اتسع تقدير الصندوق للعجز المالي لدى الحكومة المركزية إلى 16.5% من الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعا من 15.3% في أبريل/نيسان.
فيما يرى غبريل، أن ثقة الشعب في الدولة شبه غير موجودة، بالإضافة إلى أن القطاع الخاص يعمل في ضبابية بدون أي رؤية سواء على المدى المتوسط أو البعيد، وذلك في ظل غياب الحكومة وبعد توقف المحادثات مع صندوق النقد الدولي.
وطالب بضرورة إيجاد حكومة ثقة تعمل على استعادة المباحثات مع صندوق النقد الدولي والوصول إلى اتفاق تمويلي إصلاحي مع الصندوق، مما يسهم في إعادة تدفق رؤوس الأموال بالعملات الأجنبية في السوق اللبناني ويعطي متنفسا لدى الشركات والأسواق، كما أنه سيلغي الاعتماد على السوق السوداء للحصول على العملات الأجنبية.
وأكد على ضرورة توحيد أسعار صرف الدولار في السوق اللبناني الذي يوجد بأكثر من 5 أسعار مختلفة مما يضر عجلة الاقتصاد.
وكلف الرئيس اللبناني، ميشال عون، في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، تشكيل حكومة جديدة بعد حصوله على غالبية أصوات النواب في الاستشارات النيابية التي أجراها.
وأعلن الحريري أنه سيشكل مجلس وزراء مؤلفا من “اختصاصيين من غير الحزبيين”، بما يتطابق مع المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون لانتشال لبنان من دوامة الانهيار الاقتصادي.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع صحيفة الاستقلال