«ذاهبون نحو جهنّم»؛لعلّه أول توصيف دقيق لما ينتظره اللبنانيون في القريب العاجل، وهو ما بشّر به رئيس الجمهورية ميشال عون مع سقوط المبادرة الفرنسية وإطاحة القوى السياسية مجتمعة بفرصة الإنقاذ الأخيرة، وبالتالي ترك لبنان يواجه مصيره وحده.
لم يكن كافيا النفير العام الذي أطلقته فرنسا قبل شهرين تقريبا، وتحذيرها من «زوال لبنان»، في حال عدم تشكيل حكومة اختصاصيين قادرة على القيام بالإصلاحات اللازمة لإنقاذ لبنان، إذ تعلم القوى السياسية جيدا أن فرنسا والمجتمع الدولي لا يبالغان في توصيف المستقبل القاتم للبلاد، إلا أنه رغم ذلك عملوا جاهدين وعلى رأسهم «الثنائي الشيعي»لإحباط جميع مساعي التأليف الحكومي غير آبهين بالنتائج الكارثية التي تنتظر الشعب اللبناني. وما كان أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الأحد الفائت سوى نعي مبادرته بشكل غير مباشر، ولو أنه أعطى القوى السياسية مجددا مهلة أربعة إلى ستة أسابيع لتشكيل حكومة«بمهمة محددة»تحصل على دعم دولي، موجها الانتقادات اللاذعة لأهل السلطة الذين خذلوه وأثبتوا بالفعل تقديم مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا.
وبدلا من أن تشعر هذه القوى السياسية بالخجل والمهانة بعد كلام ماكرون، تصاعدت ردود الفعل على خطابه من كل حدب وصوب رافضين هذه الاتهامات، لكن المفارقة كانت بالاعتراض الذي سجله الثنائي الشيعي الذي لعب دورا أساسيا ومباشرا بضرب التسوية الفرنسية، إذ لام الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابه الأخير، الرئيس الفرنسي على اتهاماته، رافضاً «أن يكون الرئيس الفرنسي أو سواه والياً أو وَصيّاً على لبنان»، مؤكدا أن إيران لا تتدخل بالشأن اللبناني.
تأزم سياسي وانهيار على جميع المستويات
وفي وقت لم يسجّل حتى الساعة أي تطور على جبهة الاستحقاق الحكومي لجهة الدعوة إلى استشارات تكليف جديدة، إذ تنشغل القوى السياسية بتقويم لمرحلة التكليف المنصرمة استعداداً للتكليف الجديد، في ظل التمسّك بالمبادرة الفرنسية ومهلتها الجديدة للتأليف، إلا أنه يبدو أن هذه المحاولات من قبل أهل السلطة تندرج في إطار تضييع الوقت لإعادة تعويم حكومة حسان دياب المستقيلة في نهاية المطاف. وبالتالي بات ثابتاً مع اعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب عن تأليف الحكومة أن أبواب الجحيم، قد فُتحت على مصراعيها، واضعة البلاد أمام أسوأ الاحتمالات وعلى مختلف الصعد. فالاستقرار السياسي والأمني الهش أساساً بات في خطر، كما أن الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتدهورة أصلاً دخلت مرحلة حرجة مع ضياع حظوظ الحصول على دعم دولي.
وفي خضم التأزُّم السياسي الذي ينعكس حكماً على الأوضاع الاقتصادية المتردية، يُجمع الخبراء الاقتصاديون على أن عدم تشكيل الحكومة سيؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي، لناحية زيادة معدلات الفقر والبطالة وانتشار الفوضى الاجتماعية، لا سيما مع إعلان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنه بعد شهرين سيتم رفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية مما سيؤدي حتما إلى انهيار إضافي بقيمة العملة الوطنية وبالتالي ثمة عائلات كثيرة لن تستطيع تأمين قوتها اليومي، ما يضع مصير البلاد على المحك، مع انتشار الفقر والجوع، فيما يتخوّف الخبراء بأن يسير لبنان على خطى فنزويلا.
فما هو جهنم الذي تكلم عنه الرئيس عون؟ وهل ما ينتظر اللبنانيين أسوأ من الذي يعيشونه في الوقت الحالي؟ وإلى أيّ دركٍ سيصل المستوى المعيشي لا سيما بعد رفع الدعم عن القمح والمحروقات والدواء؟ وما هو مصير الدعم الدولي والبرنامج مع صندوق النقد الدولي، الذي كان يعوّل عليه بقوة بغية إخراج البلاد من قعر الانهيار الاقتصادي والإفلاس؟
جهنم اقتصادي
أكّد مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية الخبير الاقتصادي الدكتور سامي نادر، على «جهنم»التي بشّر بها رئيس الجمهورية ميشال عون اللبنانيين مع سقوط المبادرة الفرنسية، مشيرا في حديث لـ«المجلة»أنه «في وقت أصبح لدى اللبنانيين أمل مع مجيء الرئيس الفرنسي إلا أنه سرعان ما سقطت هذه المظلة وتلاشت كل الآمال بالنهوض مجددا والإنقاذ التي عُوّل عليها عبر صندوق النقد الدولي والمساعدات»، مضيفا: «يبدو أن هذه الفرصة لم تعد موجودة، وبالتالي الأمور ستبقى على هذا المنوال، ما يعني مزيدا من الانهيار في العملة الوطنية التي بدأت تفقد قيمتها أكثر وأكثر كل ساعة، والدولار الذي كان بـ8 آلاف ليرة سيستمر بالصعود ولم يعد هناك سقف له».
ولفت نادر إلى أنه «لا خيار بديل أمام اللبنانيين سوى العيش في المستقبل القريب تحت العقوبات كما يحصل في إيران، لكن المفارقة أن الأخيرة لديها بعض الثروات الطبيعية والصناعات، أما لبنان فلا يمتلك شيئا، مما يعني أن وضعنا سيكون أصعب بكثير».
لبنان الذي نعرفه انتهى
إلى ذلك، شدّد نادر على أن التسوية الفرنسية انتهت، حتى لو لم يعلن ذلك ماكرون، مشيرا إلى أن«الرئيس الفرنسي قام بقفزة استراتيجية عبر إمهال القوى السياسية اللبنانية ستة أسابيع لتشكيل حكومة جديدة، إلا أنه لن يتغير شيء ولن يتم تشكيل حكومة إنما سيتم تعويم الحكومة المستقيلة رغم التهديد الفرنسي».
وأوضح نادر أن «الأمور ذاهبة إلى مزيد من الانهيار دون دخول دولار واحد إلى الاقتصاد اللبناني، وبالتالي تبخّر ما تبقى من الودائع في المصارف اللبنانية»، لافتا إلى أنه «تم إنفاق 10 مليارات دولار من الودائع منذ بداية عام 2020، وخلال شهر يوليو (تموز) فقط نزف ميزان المدفوعات 2.3 مليار دولار»، وتابع: «لبنان سيتجه إلى كارثة اقتصادية وإنسانية قريبا جدا مع رفع مصرف لبنان الدعم عن المواد الأساسية بحيث سترتفع الأسعار بشكل جنوني وسعر ربطة الخبز قد يصل إلى 10 آلاف ليرة».
لبنان والانتخابات الأميركية
استغرب نادر كيف تعمد بعض الجهات إلى الاستنتاج والترويج بأن المعضلة اللبنانية مؤجلة حتى الانتخابات الأميركية، مؤكدا أن «ربط مصير لبنان بالاستحقاق الأميركي مرفوض خصوصا أنه لن يحسم في نوفمبر (تشرين الثاني)، وبالتالي إعلان الفائز بالانتخابات لن يتم قبل شهر يناير (كانون الثاني) بسبب جائحة كورونا»، وتابع: «فرضا تم حسم نتائج الانتخابات بداية العام المقبل فلتشكيل فريق خاص بالشرق الأوسط هذا الأمر سيستغرق أربعة أشهر إضافية، فيما اقتصاد لبنان لا يمكنه الصمود طيلة هذه الفترة»، متسائلا: «ثمة فريق يراهن على فوز بايدن، ولكن ماذا إن بقي ترامب؟».
وشدد نادر على أن «لبنان لا يمكنه الصمود حتى ذلك الوقت، وبالتالي فإن البلاد ذاهبة نحو التفكك، ولبنان الذي كنا نعرفه انتهى»، مشيرا إلى أن ثمة فريقا واحدا يمارس التعطيل وغير مبال بنتائج ذلك».
كما أشار نادر إلى أنه «لا عقوبات في الوقت الراهن على القوى السياسية، بانتظار نتائج ترسيم الحدود البرية والبحرية».
ماذا ينتظر اللبنانيون بعد سقوط المبادرة الفرنسية؟
أشار رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق والخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني لمجلة «المجلة»، إلى أنه «فيما بادر الرئيس الفرنسي لإجراء تسوية سياسية من خلال تشكيل حكومة اختصاصيين قادرة على إجراء إصلاحات معينة متعلقة بقطاع الكهرباء والاتصالات والقطاع المصرفي وغيرها، مقابل إقامة مؤتمر اقتصادي في باريس، يتم من خلال تأمين مساعدات مالية لإنقاذ لبنان، لكن للأسف الشديد تم رفض هذه المبادرة لبنانيا على الرغم من أهميتها، وعلى الرغم من أن ماكرون صرّح في خطابه الشهير بعد اعتذار رئيس الحكومة المكلف بأن المؤتمر الذي وعد به سيظل قائما ولكن لا أموال لإصلاح هذه القطاعات، إنما سيقتصر فقط على تأمين مساعدات عينية فقط للقطاع التربوي والمستشفيات».
الدولار إلى مستويات قياسية
وعن نتائج سقوط المبادرة الفرنسية، أوضح مارديني أنه «بداية سيتم رفع الدعم عن المواد الأساسية (كالقمح والدواء والمحروقات) بعد شهرين، بحسب ما أعلن المصرف المركزي بسبب نفاد الاحتياطي المصرفي الذي يمكن استخدامه، أي إنه بعد شهرين سيقفز سعر صرف الدولار إلى مستويات قاسية، لافتا إلى أن «الدعم هو الذي ثبت سعر الصرف خلال هذه الفترة على 7500 ليرة، لجهة أن التجار كانوا يؤمنون دولاراتهم من مصرف لبنان للاستيراد، ولكن بعد رفع الدعم ستكون السوق السوداء وجهة هؤلاء التجار مما يعني ازدياد الضغط على هذه السوق وارتفاع الطلب على العملة الصعبة، لدرجة أنه سيصبح من الصعب شراء الدولار مع امتناع التجار عن بيع هذه العملة والاحتفاظ بها مع توقع ارتفاع سعر الصرف، وتابع: «لبنان ينتظر بعد شهرين تدهورا كبيرا في سعر صرف الليرة أكثر من الذي نعيشه في الوقت الراهن».
وكنتيجة ثانية لارتفاع الدعم، قال مارديني إن «خط الفقر اليوم في لبنان يقدر بـ55 في المائة، والأكيد أن نسبة الفقر سترتفع بسرعة قياسية بين الشعب اللبناني لأنها نتيجة حتمية لتدهور سعر صرف العملة، لا سيما وأن معظم اللبنانيين يتقاضون رواتبهم بالليرة ومع انهيار العملة ستنخفض قدرتهم الشرائية ولن يعود لها قيمة، لا سيما مع الارتفاع الجنوني بالأسعار الذي سيترافق مع وقف الدعم وانهيار العملة»، لافتا إلى أن «الدولة اللبنانية في هذا الوقت ستضع اللوم على جشع التجار، في حين أن السبب الأساسي لما ينتظرنا هو رفض المبادرة الفرنسية وعدم دخول الدولار إلى الاقتصاد اللبناني».
وشدّد مارديني على أن «ارتفاع الدولار المنتظر لن يؤدي فقط إلى أزمة اقتصادية كبيرة، إنما سيؤدي إلى أزمة اجتماعية ومعيشية حادة مما سيهدد الأمن الاجتماعي، إذ ستزداد نسب الجرائم والسرقات والنشل والعنف وهو ما ينذر بمستقبل قاتم».
ورأى مارديني أن «حكومة دياب المستقيلة كانت تنتهج سياسة كسب الوقت، إذ كانت تدرك جيدا أن الاحتياطي المصرفي ينتهي بعد شهرين بانتظار أعجوبة لإنقاذ الوضع، وعندما جاءت هذه الأعجوبة (مبادرة ماكرون) تم رفضها».
سياسة الدعم
وفيما يعاني لبنان في الآونة الأخيرة من شحّ البنزين وانقطاع مادة المازوت وبعض الأدوية من الأسواق، أكّد مارديني أن سياسة الدعم هي التي تؤدي إلى انقطاع السلع وليس توقف الدعم، موضحاً أن «التجار لا سيما تجار المحروقات يشترون الدولار من مصرف لبنان على 1500 ليرة؛ إذ يتأمل المركزي أن يقوم التاجر ببيع بضائعه في السوق اللبناني على سعر منخفض، إلا أنه في الحقيقة يمتنع التاجر عن بيعها في السوق المحلية بحجة انقطاعه أو بيعه في السوق السوداء، فيما يقوم ببيعها إلى سوريا محققا بذلك أرباحا مضاعفة»، مشددا على أن «سبب انقطاع السلع هو سياسة الدعم ليس فقط في لبنان وإنما في كل بلدان العالم إذ ينتج عنها التهريب والسوق السوداء وكذلك نفاد احتياطي الدولار من المركزي أي ما تبقى من أموال المودعين لصالح المهربين وتجار السوق السوداء وبالتالي لا يستفيد من الطبقة الفقيرة».
وأكد مارديني أنه «من هذا المنطلق فإن توقف سياسة الدعم هذه هو أمر إيجابي لأنه بذلك يتوقف هدر أموال المودعين لصالح التهريب والسوق السوداء»، مشيرا إلى أن «آلية الدعم الصحيحة هي عبر إعطاء الأموال للناس ومن هنا جاءت فكرة البطاقة التموينية المصرفية».
لبنان على خطى فنزويلا
وفي الختام، رأى مارديني أنه «كان يمكن أن يحدث أعجوبة تنقذ لبنان، إلا أنه يبدو أن الانهيار الحاصل حتى الآن ليس كافيا لإقناع الطبقة السياسية بالقيام بالخطوات والإصلاحات اللازمة، وبالتالي لبنان على خطى فنزويلا، إذ سيكون أمام انهيار أكبر بكثير من الذي نعيشه حاليا، والسؤال الحقيقي اليوم ما هو حجم الانهيار والفقر والبطالة الكافي لإقناع الطبقة السياسية بضرورة تغيير نهجها؟».