حكومة “تكنوقراط” ليست كافية… الإصلاحات أولاً

حكومة “تكنوقراط” ليست كافية… الإصلاحات أولاً

عندما انتفض اللبنانيون ضد السلطة، برز من بين المطالب استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري واستبدالها بحكومة تكنوقراط تكون قادرة على الانقاذ ووقف الانهيار، وتكون السبيل الأنجع لرفع قبضة السياسيين عن مكامن الدولة من أجل بقاء لبنان.

وفيما يجري الحديث جدياً عن إمكان تأليف حكومة تكنوقراط، اعتبر التقرير الأخير لـ”ميريل لينش” أن “حكومة تكنوقراط ذات صلاحيات إصلاحية واضحة وقدرة على التنفيذ، قد تتمكن من استعادة الثقة المحلية واكتساب الدعم الدولي وشراء الوقت، لكن يمكن أن تَرِث ظروفاً اقتصادية عصيبة وتواجه صعوبة في تطبيق التقشف”.

لا شك في أن المرحلة التي يمر بها لبنان غيّرت المعادلات التي كانت الحكومة تشكَّل على أساسها، إذ لم يعد كافياً قيام حكومة بأسماء جديدة فحسب، بل الأهم تغيير النهج المتّبع من الحكومات التي توالت على الحكم، وإن كان ثمة اقتناع لدى الجميع بأنه اذا لم يكن هناك توافق سياسي فإن اي حكومة حتى لو كانت حكومة تكنوقراط، لن يكون في مقدورها انجاز اي تقدم أو اصلاح.

ولكن مع التغيرات التي قد تحصل على الصعيد الحكومي، ثمة ضرورة لتبيان الإصلاحات القادرة على إنعاش الاقتصاد في ظل الأزمة الراهنة، فيما السبيل الوحيد للخروج من الأزمة يكمن في خفض نفقات الدولة إلى معدلات طبيعية تتناسب وحجم الاقتصاد، وفق ما يقول المحلل الاقتصادي في المعهد اللبناني لدراسات السوق مجدي عارف لـ”النهار”. فقد بينت أبحاث عدة منها دراسة لمعهد فرايزر الكندي (Fraser Institute) أن ثمة علاقة قوية بين حجم الدولة والتطور الاقتصادي والاجتماعي في البلد، فيما أظهرت دراسات أخرى أنه كلما تقلص إنفاق الدولة ودورها في الاقتصاد تحسنت أوضاع المواطن. بمعنى آخر، انه كلما كان للأفراد الحرية في دخول القطاعات الاقتصادية كافة تحسّن الوضع المعيشي.

تشكل الدولة اللبنانية 35% من حجم الاقتصاد، بحسب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهذا الرقم يعكس ما يدفعه اللبنانيون للدولة من مداخيلهم سواء بشكل مباشر عبر الضرائب، أو بشكل غير مباشر من خلال الاحتكارات الموجودة حاليا في بعض القطاعات مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والطرق. ويعني ذلك أن المواطن لا سلطة له على ثلث دخله، إذ تقوم الدولة بصرفه عوضاً عنه. واللافت أن حجم الدولة لم يتجاوز 17% من الاقتصاد في فترة الازدهار حين كان يسمى لبنان “سويسرا الشرق”، ما يبشّر بإمكان العودة إلى هذه الأمجاد مجدداً إن أُعيدَت الى الأفراد حرية الاختيار والاستثمار. وقد مكَّن حجم الدولة هذا اللبنانيين حينذاك من تطوير سائر القطاعات، مثل الكهرباء والاتصالات، بأموالهم الخاصة، مواكبين التغيرات مع الخارج من دون احتكار الدولة لها. وكذلك تمكنوا من استقدام التطورات العالمية والقيام بابتكاراتهم الخاصة، علما أنه تم تأسيس قطاعي الكهرباء والاتصالات بمبادرة وأموال خاصة لرواد الأعمال (أول شركة لإنتاج الكهرباء وتوزيعها في لبنان عام 1909، عرفت بـ”غاز بيروت”، وأول شركتي خليوي “فرانس تليكوم” و”تليكوم فنلند” عام 1994).
ووفق عارف “أقر مجلس النواب مجموعة قوانين تسمح لرواد الأعمال والشركات بالاستثمار على نفقتهم وتحسين هذه القطاعات وإلغاء الاحتكارات دونما حاجة إلى إنفاق الدولة، لكن الحكومة لم تطبّقها حتى اليوم مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والملاحة الجوية. وباستطاعة هذه القوانين تقليص النفقات على الدولة وتحميلها للقطاع الخاص، لخفض العجز في الموازنة والدَّين العام من دون تحميل اللبنانيين ضرائب جديدة”.

ليس جديدا القول إن “الوضع المالي للدولة والبلاد عموما لم يعد يتحمل أي إنفاق إضافي، فقد بلغت نسبة الدين العام الى الناتج المحلي 158%، ما يهدد قدرة لبنان على الإيفاء بديونه ويمنع المستثمرين من المجيء، فيما اقتصرت حلول الدولة على تأجيل الصفقات في كل القطاعات للسنة الثانية على التوالي في مشروع موازنة 2020 بغية خفض النفقات بدلاً من تحرير القطاعات المكلفة على الدولة والاقتصاد. وتحرم هذه الحلول المواطن خدمات أساسية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والطرق لأعوام إلى حين تحسّن وضع مالية الدولة”، وهو أمر لن يحصل، بحسب عارف، “ما لم يتم تحرير هذه القطاعات كما فعلت بريطانيا وتركيا حين مرَّتا بأزمة مماثلة، وهكذا يدور الاقتصاد اللبناني في حلقة مفرغة من العجز والانكماش”.

وفي حال بقيت الدولة تتبع النهج عينه عبر تغريم المواطن والشركات، بغية زيادة إيراداتها بدلاً من خفض النفقات التي تُصرف من دون رقيب أو حسيب أو منفعة فعلية، “فسينتهي بنا المطاف”، برأي عارف، إلى “خوض تجربة اليونان، وعلى نحو أشد، إذ بلغ معدل الدخل الفردي من الناتج المحلي في اليونان 32 ألف دولار قبل الأزمة، وانخفض إلى 19 ألف دولار بعدها. أما في لبنان، فلا يتعدى هذا المعدل 9 آلاف دولار، ما يعني أن وضع اللبنانيين إنْ دخلت البلاد أزمة مماثلة سيكون أسوأ بكثير مما هو اليوم”.

تطالب التظاهرات بتأليف حكومة تكنوقراط تسمح بإدارة الأزمة الحالية. ويمكن هذه الحكومة الجديدة أن تستمر بالنهج السابق فتفشل من جديد أو تجري تغييرات جذرية تعطي المواطن حرية أكبر في اختيار خدمات أساسية يحتاج اليها مثل الكهرباء والمياه والاتصالات، وتمكّنه من المحاسبة بشكل مباشر وفعال بدلا من الاحتكار الحالي. لذا فإن اقتصار الحل على تشكيل حكومة تكنوقراط فقط لن يرضي الشارع ما لم تبدأ بالإصلاحات اللازمة لدفع عجلة النمو من جديد وجذب الاستثمارات وتحسين وضع المواطنين.

إذاً، “الامر لا يقتصر على تشكيل حكومة تكنوقراط، إذ ليس مطلق حكومة يمكن أن تعيد الامور الى نصابها أو تحرك العجلة الاقتصادية”، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي لويس حبيقة لـ”النهار”، “اذ يجب أن تضم الحكومة وزراء أكفّاء يتمتعون بالنزاهة والجدية لكي تستقيم الامور، على أن تعطى مجالاً للعمل أشهراً عدة”. ويحذر من “تشكيل حكومة كالحكومات السابقة أو تطعيمها بوزراء جدد، لأن المشكلة ستزداد سوءا، وكذلك الشارع الذي سينتفض من جديد وبقوة أكبر”، معتبرا أنه “حالما تتشكل حكومة توحي الثقة فإن تصنيف لبنان سيرتفع تلقائيا في الاسبوع الذي يلي التأليف، كون التصنيف يستند الى التوقعات المستقبلية خصوصا اذا كانت التوقعات ايجابية

إضغط هنا لقراءة المقال على الموقع النهار