يواصل العهد حملته القضائية بحق حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في قضية قسّمت البلاد وزادت من أعبائه المتراكمة في ظلّ استمرار الاستهداف القضائي لسلامة. فكيف ستتأثر صورة لبنان النقدية والمالية المتآكلة أصلًا بفعل الفساد الاقتصادي المهول في البلاد؟ وهل ينجح لبنان في الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على الرغم من حساسية الموقف؟
تستمر حلقات التفاوض مع صندوق النقد الدولي، في ظل وقائع اقتصادية حولت لبنان إلى دويلة هشة، تضربها الكوارث من كل حدب وصوب. وعلى طريق النهوض مجددًا بعد تلقي ضربات قاضية لم تمر عليه من قبل، يحاول البلد المنكوب التفاوض مع الصندوق الدولي بلسان الواثق الموحَّد.
وفي مسألة الوحدة والتباين، يقول الخبير الاقتصادي اللبناني، باتريك مارديني، في حديث لوكالتنا: “من المهم أن تكون وجهة نظر الفريق اللبناني المفاوض موحّدة، وهذا ما نجحت الحكومة اللبنانية الحالية في توفيره. بخلاف الحكومة السابقة التي كان لها تصوّر للحلّ الاقتصادي لا يتوافق وتصور شريحة واسعة من مجلس النّوّاب. ولهذا السبب لم تستطع الحكومة السّابقة تمرير الحل الخاص بها في مجلس النواب”.
ويتابع مارديني: “أما الحكومة الحالية، فتحاول أن تتفادى حقل الألغام، ما أدى إلى أن يفاوض صندوق النقد الدولي جهة واحدة فقط، وهذه نقطة تُحسب للبنان لجهة المصداقية أمام الصندوق. ولكن على الرغم من أن الفريق اللبناني وحّد وجهة نظرته لحل الأزمة المصرفية، وليس الأزمة الاقتصادية ككل، رفض صندوق النقد خطة الحكومة، بسبب احتوائها على الكثير من الثغرات”.
ويوضح مارديني أن الخطة رُفضت؛ لأنها تؤدي إلى تضخم كارثي بسبب ارتكازها على تحويل نحو نصف الودائع من الدولار إلى الليرة اللبنانية، على أسعار صرف متعددة، وهذا أمر غير عادل نهائيًّا. وبناء على رفض الصندوق الدولي، تعمل الحكومة على إيجاد خطة تعافٍ مصرفي حصرًا، وليس الاقتصاد برمته”.
الإجراءات القضائية يمكن تجاوزها
ويشهد لبنان مؤخرًا سلسة إجراءات قضائية ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. إجراءات أعطى الضوء الأخضر فيها وباركها، كل من الرئيس اللبناني ميشال عون، وصهره النائب جبران باسيل، في ظل استنكار من الحكومة ومجلس النواب ومسؤولين ورؤساء أحزاب.
ولكن الملاحقة القضائية بكل ما تخللها من شدّ وجذب ومعركة إعلامية غير مسبوقة، قد تصل في نقطة ما إلى مواجهة أمنية، لم تتطور بعد إلى باب فولاذي يقفل في وجه إنجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
فوفقًا للخبير الاقتصادي باتريك مارديني: “صندوق النقد الدولي يهتم بأن تكون الخطة الاقتصادية المطروحة تحظى بتوافق جميع الأطراف اللبنانية، وتحل المشاكل لا تنتجها. فالصندوق غير مستعد على الموافقة والتمويل وهو يشعر بأن مجلس النواب أو المصرف المركزي غير موافقين على الخطة المطروحة”.
هكذا إذًا، يشترط الصندوق الدولي بنودًا محددة بعينها يجب إنجازها في سبيل الحصول على موافقة منه للدعم والتمويل، والإسهام في إنقاذ لبنان من الموت السريري. والأمر بهذا الشكل، لا يرتبط بدائرة ضيقة يحكمها عداء مع المصرف المركزي.
وتأكيدًا لذلك، يقول مارديني: “لطالما كان صندوق النقد الدولي ينتقد سياسات وأداء المصرف المركزي اللبناني، وثمة خلاف كبير بين الجانبين. ولكن لا أعتقد أن الأمر مُشخصن، ففي حال تقديم خطة جيدة متوافق عليها، سيقبل صندوق النقد بها برغم وجود حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يمكن أن تكون ثمة دعاوى قضائية ضده”.
ويستدرك مارديني: “لكن صندوق النقد الدولي يطالب بمزيد من الشفافية، والحَوكمة، وإصلاحات هيكلية بالمصرف المركزي. ولكن لم يتم التطرق إلى هذا الحديث بعد، فالكلام ما يزال يدور حول خطة تعافي المصارف. وهو ما يرفضه الصندوق، إذ لا يعترف بخطة مصرفية معزولة عن الوضع الاقتصادي، وإنما خطة كاملة تشمل، إلى جانب القطاع المصرفي، موضوع الدين العام وعجز الموازنة العامة والاستقرار النقدي وإصلاح قطاع الكهرباء، وطبعًا الشفافية. ومن هذا المنطق سيكون للنقد الدولي ملاحظات كثيرة على المصرف المركزي”.
وفي قراءة لكل هذه الملاحظات، يصل الأمر إلى قناعة تامة بضرورة اتجاه لبنان إلى حلّ جذري ينشئ منطقة آمنة في فضاء الخراب الغارق به، ما يشجع الصندوق على إحضار قارب النجاة لانتشاله والعبور به إلى برّ الأمان.
السياسة النقدية، عباءة لبنان الثقيلة على كتفيه
محاولات لبنان للخروج لكسب ثقة صندوق النقد الدولي وإنجاح المفوضات معه، تشبه إلى حدّ بعيد الكذبة التي لا توّلد إلا المزيد من الكذب، حتى تورط صاحبها وتغرقه في مستنقع لا حواف له، وإن كان يقصد في بداية الكذب أمرًا شريفًا وهو النّجاة بنفسه.
فالسياسة النقدية السائدة في لبنان سياسة نقدية استنسابية (لا تتأثر بتقدير شخص أو حكمه أو تفضيله)، يؤكد الخبير الاقتصادي باتريك مارديني “أنها سياسة نقدية تعتمد على وجود ثقة بسياسة المصرف المركزي، لجهة توقيت ضخ العملة الوطنية إلى السوق وسحبها منه ورفع الفوائد؛ والتعاميم الواجب إصدارها. أما اليوم مع الدعاوى ضد مصرف لبنان، وبوجود سياسة نقدية استنسابية تؤثر في الاستقرار النقدي بالبلاد، فإن الثقة بالمصرف وبالليرة اللبنانية تتزعزع، ما يصعّب إجراء إصلاحات”.
ويقدم مارديني حلًّا مناسبًا للخروج من هذا المأزق، فيقول: “لهذا السبب كنتُ قد طرحت على السلطة السياسية في لبنان تغيير السياسة النقدية المعتمدة، والانتقال إلى سياسة لا تحتاج للاستنسابية، أي تكون سياسة نقدية أوتوماتيك، ويطلق عليها اسم مجلس النقد “كارنسي بورد” “Currency Board”.
ويستكمل مارديني حديثه لوكالتنا: “اتباع لبنان لهذه السياسة يعني أن الليرة تُغطى مائة في المائة بالدولار، والمصرف المركزي لا يضخ ليرة إذا لم يكن معه دولار في مقابلها. وأتصور أن كل المشاكل المحيطة بالسياسة النقدية في لبنان، إن كانت دعاوى ضد المصرف المركزي أو غيرها من المشاكل السياسية والأمنية المحتملة، لن يبقى لها تأثير سلبي علينا إذا اتبعنا الكرنسي بورد”.
لا يبدو الوضع معقّدًا بهذه الصّورة، ولكنّ الأمر حتمًا يحتاج إلى إرادة حقيقية على المستويات كافّة تدفع البلاد باتجاه الإصلاح المطلوب، لمنع الانهيار من التطور، وللتفاوض مع صندوق النقد باللغة التي يفهمهما ويستجيب لها.
ملف المفاوضات لم يغلق بعد، وكل الوقت الذي يمر هو اختبار للسلطات في لبنان إزاء فرصة ينتظرها جميع اللبنانيين للعودة إلى الحياة. وليس غريبًا أن يكون التحدي الأكبر في وجه الحكومة اللبنانية حاليّا هو ملف المفاوضات، بشقيه الخطة الاقتصادية الكاملة والسياسة النقدية الصائبة.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع وكالة انباء هاوار