البواخر التركية غادرت… فهل يشملها التدقيق الجنائي؟

البواخر التركية غادرت… فهل يشملها التدقيق الجنائي؟

بعدما انتهى عقد الدولة اللبنانية مع شركة “كارادينيز” في أيلول الماضي، غادرت الباخرتان التركيتان “فاطمة غول سلطان” و”أورهان بيه”، وذلك بعد مضيّ أكثر من 8 أعوام على استئجارهما لإنتاج الكهرباء “موقتا” (لمدة عامين فقط) كجزء من خطة وزارة الطاقة الإصلاحية التي نُشرت في العام 2010. وغادرت الباخرتان بعدما أثار استئجارهما جدلا واسعا طوال فترة وجودهما في لبنان، وخصوصا حيال شبهات تتعلق بالعمولات والصفقات والمصالح التي قد تكون وراء مشروع استئجارهما.

وفيما ينشغل لبنان بموضوع إجراء تدقيق جنائي في مصرف لبنان في خضم معركة لمحاربة الفساد، بَيد أنه ينسى المسألة الأهم التي تتعلق بالصفقات العمومية التي حصل فيها الفساد مباشرة، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي في المعهد اللبناني لدراسات السوق أنطوني زينا. وعليه، “ينبغي أن يشمل التدقيق الجنائي الصفقات التي أجرتها الوزارات، ولا سيما تلك التي كانت تجري خارج المسار القانوني الصحيح، أي خارج إطار إدارة المناقصات. ولعل البواخر التركية هي أبرز أمثلة المناقصات المشبوهة، والتي تترك اليوم فجوة بقيمة تتعدى الـ 1.5 مليار دولار في خزينة الدولة، أي ما يوازي كلفة بناء 3 معامل بقدرة 500 ميغاواط”، فيما كان في إمكان لبنان، بالمبلغ نفسه، إنشاء معامل بقدرة تتخطى ألف ميغاواط، أو على الأقل تملّك الباخرتين والاستفادة منهما لـ15 سنة. فخلال فترة وجودهما أنتجت الباخرتان 22 مليون ميغاواط ساعة، بكلفة إجمالية بلغت مليارا و180 مليون دولار، من دون احتساب ثمن الفيول، حصلت الشركة منها على 880 مليون دولار، فيما أسهمت الأزمة المالية التي يعيشها لبنان بتوقف مؤسسة الكهرباء عن الدفع منذ كانون الأول 2019، في مراكمة هذه المستحقات لتصل إلى نحو 220 مليون دولار.

ومن الأمثلة الأخرى على اتباع هذه المنهجية، يورد زينا تلك التي تتعلق بمناقصة بناء معمل دير عمار 2. “فالكلفة المقترحة مرتفعة، وخصوصا عند مقارنتها بكلفة بناء معامل في بلدان أخرى، فكلفة بناء معمل “هانتر باور بروجيكت” في أوستراليا مثلا هي 708,515 دولارا للميغاواط، أي أقل بـ 165,090 دولارا للميغاواط من معمل دير عمار 2 الذي ترتفع كلفة بنائه إلى 873,605 دولارات للميغاواط، علما أن المعملين يتمتعان بميزات مماثلة”.

وفي وقت يعاني لبنان من انعدام الشفافية في المناقصات التي تجريها وزارات الدولة ومؤسساتها، أقِر قانون جديد للشراء العام لوضع كل المناقصات تحت رقابة إدارة المناقصات التي سُميت تبعاً لهذا القانون الجديد “هيئة الشراء العام”. في المضمون، يرى زينا ان القانون “خطوة في الاتجاه الصحيح”، ولكن يطرح علامات استفهام حول استقلالية هيئة الشراء العام بعد الطعن في القانون أمام المجلس الدستوري إذ أصبح ينص على “أن تعيّن الحكومة الهيئة العامة المراقبة”، ويعتبر أن “ثمة تضاربا واضحا في المصالح، خصوصا حيال منح المراقب صلاحية تعيين مراقب عليه”.

يعيش الاقتصاد اللبناني حالا حرجة بعد 20 سنة من مشاريع عامة فاشلة، إنْ في قطاع الكهرباء أو الاتصالات أو كل القطاعات التي تحتكرها الدولة اللبنانية، لذا يطالب زينا “بإجراء تدقيق جنائي للصفقات العمومية كافة ووضع قانون شراء عام يضمن فصلا واضحا للسلطات التنفيذية والسلطات الرقابية، لأن المواطن يحق له أن يعلم مصير أمواله باعتباره الممول الأساسي والوحيد لكل مصاريف الدولة عبر أموال الضرائب والتضخم.

ولا يتوقف الحل عند التدقيق الجنائي لصفقات وزارة الطاقة وإقرار قانون شراء عام شفاف فحسب”، بل من الضروري وفق ما يقول “تفكيك احتكار مؤسسة كهرباء لبنان والتوقف عن تغطية خسائرها والتشديد على إدخال المنافسة. فعلى سبيل المثال، يعطي وجود منتجي كهرباء مستقلين عن مؤسسة كهرباء لبنان المواطن حرية اختيار المنتِج الأنسب له، بما يجبر المؤسسة على ضبط مصاريفها وتحسين إنتاجها لمجاراة السوق المنافسة. هكذا يكون خيار نوعية الخدمة وكلفتها في يد المواطن، لا في يد مؤسسة الكهرباء أو أي مؤسسة محتكرة، عامة كانت أم خاصة، فتصبح مؤسسة كهرباء لبنان تحت رحمة زبائنها، غير قادرة على المضي في منهجية التهديد بالعتمة إذا لم تتم تغطية خسائرها أو ثمن استثماراتها. وتبعاً لذلك، يحصل المواطن على أفضل خدمة كهرباء بأقل كلفة”.

ويخلص زينا الى القول إنّ “محاربة الفساد والهدر العام تجري على شقين: الشق الأول فك احتكارات المؤسسات العامة وإدخال المنافسة، والشق الثاني ضمان إستقلالية هيئة الشراء العام”.

ينتظر المواطن القرارات والإصلاحات لكسب ثقة المجتمع الدولي ودعمه ووقف تدهور الوضع الاقتصادي. الإصلاحات المطلوبة كثيرة، وأهمها ملف الكهرباء إذ يشترط صندوق النقد الدولي إصلاح الكهرباء وخفض نسبة العجز المالي كجزء من خطة إعادة هيكلة القطاع العام، ولكن لا يزال تركيز وزارة الطاقة محصورا بكيفية تأمين دولارات الاحتياط لمؤسسة كهرباء لبنان، بدل أن يكون التركيز على كيفية ترشيد النفقات وتحسين الإيرادات.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار