إنعكس التدهور المتواصل لليرة اللبنانية مقابل الدولار في الأسبوع الأخير على مبيعات الإسمنت، التي شهدت ارتفاعاً حاداً في الأسعار وسوقاً سوداء تحتكر المبيع، لتكون عقبة جديدة أمام المقاولين الذين يسعون للبقاء في لبنان، وأمام من يريدون ترميم مبانيهم المتضررة جرّاء انفجار مرفأ بيروت. ويبدو أن احتكار التجار السلع الأولية للبناء، وتكديسها في مخازنهم لبيعها بأسعار ترتفع يوماً بعد آخر، قد يفيد اللبنانيين في الضغط على المشرّعين لكسر حصرية الإسمنت في يد الشركات المصنعة المحلية الثلاث.
وزير الصناعة عماد حب الله الذي اعتزم منذ حوالى الشهر “ضرب احتكار الاسمنت وفرض الالتزام بالسعر الرسمي”، وصل مؤخراً إلى حد الاعتراف بعدم قدرته على وقف هيمنة السوق السوداء ومحاربة العجز الكبير لوصول اللبنانيين إلى الاسمنت، وهو عجز يتفاقم نتيجة الارتفاع الجنوني للأسعار حد الـ750% بعد أن بات سعر الطن اليوم يصل إلى مليون و800 ألف ليرة لبنانية في “السوق السوداء”، مقارنة بالسعر الرسمي المُحدد بـ240 ألف ليرة للطن الواحد بالإضافة إلى الـTVA وهو ما كان يعادل 61$ على سعر المنصة (3900 ليرة). وعليه أعلن منذ أيام عن “فتح أبواب وزارة الصناعة أمام من يرغب بالاستحصال على إذن استيراد شرط التقيد بالمعايير والتزام شروط التسعير، بخاصة بعد تزايد استغلال الوضع المعيشي والمالي ووصول أسعار الاسمنت لما وصلت إليه”. فهل يستطيع إجراء كهذا ردع السوق السوداء بخاصة أن الإستيراد يتطلب عملة صعبة؟ وكيف يبدو الوضع حالياً؟
الدولة “أخطأت”
قبل التوقف عند أزمة تخمة المطلوب وتراجع المعروض في مادة الإسمنت، وبالتالي الارتفاع “غير المضبوط” بالأسعار وتفلت الوضع، اختار مدير عام وزارة الصناعة داني جدعون، في حديثه لـ”نداء الوطن” الإضاءة على الوضع التاريخي للإسمنت في لبنان، شارحاً أنه محميّ “منذ الثمانينات كصناعة وطنية بموجب تشريعات قانونية تقيها من المنافسة بالأسعار واحتمال ضرب السوق المحلية، بحيث فرضت رسوماً جمركية بنسبة 75% على استيراد الاسمنت من الخارج ضمن أحد قوانين الموازنة العامة، بالإضافة إلى ضريبة القيمة المضافة على الطن الواحد، واشترطت في العام 1993 استيراد الاسمنت بالإستحصال على إجازة استيراد مسبقة من وزارة الصناعة. وهي إجازة في الغالب لا تُعطى إلا لغايات مفاوضتية من قبل الوزارة للتهديد بها، في حال ملاحظة ارتفاع في الأسعار أو استياء شعبي ما أو “تفرد ما” من مصانع الإسمنت الثلاثة وهي: “ترابة سبلين” و”لافارج-هولسيم” و”الترابة الوطنية” أو المعروفة باسم “السبع”. وهنا علينا الاعتراف أن الدولة اللبنانية، تتحمل وزر عدم ضبط تجاوزات الشركات الثلاث لما لا يقل عن 50 عاماً، بحيث تضاعفت أسعار مادة الترابة السوداء عدة مرات على مر السنين بلا رادع منافس ولا حدّ”.
يقول المثل “يا فرعون مين فرعنك – قال: ما لقيت حدا يردني”، واليوم تحاول الوزارة جاهدة ضبط أمر فلتان الأسعار من دون جدوى. إذ إنه، وبحسب جدعون، “كان لبنان يمتلك فرصاً واعدة في هذا القطاع خصوصاً في منتجات الصناعات التحويلية والإنشائية، نظراً لما تتوفر عليه البلاد من مواقع فيها كميات هائلة من الخامات الصناعية المنتجة لمواد البناء مثل الإسمنت المطلوب أيضاً في الخارج. ولكن، وبما أن صناعة الإسمنت من الصناعات الملوثة للبيئة، وكذلك من الصناعات كثيفة استخدام الطاقة، وكلا الأمرين يكرس لمشكلات تضاف إلى أجندة طويلة من معاناة لبنان بيئياً واقتصادياً واجتماعياً، ارتفع صوت البيئيين، إذ يعاني سكان المناطق المجاورة لمصانع الإسمنت، من الانبعاثات والأتربة جراء عمليات الطحن والتعبئة، ومن ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية الناتجة عن ارتفاع معدلات التلوث، خاصة أمراض الصدر، والقضاء على الزراعة، وتلوث مصادر المياه، إضافة إلى التلوث الصوتي من ضجيج الماكينات المستمر. وتمت مناقشة أوضاع الشركات بعد توقف مقالعها عن العمل منذ أواخر سنة 2019، وجرى نقاش في أوضاع السوق والحاجات، إضافة إلى قضايا الاحتكار والاستيراد، حيث أكد ممثلو الشركات “تعاونهم الكامل واضعين أنفسهم تحت رقابة ومرجعية وزارة البيئة والتقيد بالمعايير البيئية اللبنانية والعالمية كافة، لناحية الانبعاثات واستثمار وإعادة تأهيل المقالع. بعدها توقف معملا “لافارج-هولسيم والسبع” عن الإنتاج بعد احتجاج المجموعات سلمياً بكتابة العرائض وتقديم الشكاوى وتنظيم الوقفات الاحتجاجية ومفاوضة المسؤولين وشرح قضيتهم لوسائل الإعلام واستخدام السوشيل ميديا، وتوثيق انتهاكات المصنع البيئية وتقديم شكاوى للوزارات المعنية، والتحرك المنظم، فتفرد مصنع “سبلين” بالإنتاج، وباع المعملان الآخران مخزونهما للتجار على السعر الرسمي المحدد من الوزارة (240 ألف ليرة للطنّ)، إلا أن هناك من قام بتخزينها في مستودعاته بكميات ضخمة أملاً بحصد أرباح خيالية على حساب جيوب اللبنانيين عند إفراغ مخزون المصانع”.
وتابع: “تسعى وزارة الصناعة إلى مقاومة المدّ المتزايد للسوق الموازية أو السوداء والتهريب اليوم لأنه بعد ذلك، فُتح الباب أمام “سوق ترفع الأسعار على حسب ارتفاع الطلب” وتجاوز في البدء سعر طنّ الإسمنت 650 ألف ليرة في الأيام الأولى واضطر حينها الوزير بالتلويح بفتح الباب أمام الاستيراد. كما تردد أنه يتم أيضاً تهريب “الترابة” صناعة سورية إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية، والأسعار لا تحتكم لقرارات الوزارة والسعر الرسمي، وبات أمر التلويح بالاستيراد أيضاً غير مجدٍ بسبب عدم ثبات سعر الصرف في السوق السوداء والأمور ذاهبة أكثر إلى التعقيد للأسف، وهو ما يبعث برسالة سلبية عن مناخ الاستثمار العقاري في لبنان، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من فجوة تمويلية وتعوّل بشكل كبير على جذب الاستثمارات الأجنبية”.
الإسمنت السوري وصل!
إنحدار متواصل يضرب المنشآت الصناعية في لبنان وأهمها مصانع الإسمنت التي تُعتبر ركيزة أساسية في تشغيل الأيادي العاملة. فوفق أحد تجار مواد البناء، فقد ارتفعت الأسعار مع انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الذي وصل الى نحو 15 ألف ليرة لبنانية، ويوضح التاجر لـ”نداء الوطن”، أن سعر الكيس الواحد من الإسمنت الذي يزن 50 كيلوغراماً يبلغ 15000 ليرة سورية أي أن طن الإسمنت بـ300 ألف ليرة سورية (63 دولاراً أميركياً)، أي ما يعادل في لبنان على سعر صرف 15000 للدولار الواحد نحو 945000 ليرة لبنانية الطن، ويُباع بعدها للسوق بين مليون و800 ألف ليرة ومليوني ليرة لبنانية أي بضعف الربح في تغلغل واضح للإقتصاد الموازي في لبنان.
في السياق، يؤكد أحد التجار العاملين في بيع الإسمنت، محمد مريم لـ”نداء الوطن” دخول الإسمنت السوري إلى الأسواق اللبنانية، ويُرجع السبب إلى ارتفاع الأسعار بصورة متواصلة من دون التوصل، على صعيد الدولة، إلى حلّ يكسر ارتفاع الأسعار وبنفس الوقت يكسر احتكار المصانع التي ما أن توقفت إنتاجية اثنين منها والتي كانت تغذي الأسواق بنحو 70% من احتياجاتها من الإسمنت، بدأت الفوضى.
إلغاء الرسوم الجمركية!
هذا وقد جددت لجنة كفرحزير صرختها ودعوتها لـ”استيراد الاسمنت واعفائه من اي رسوم جمركية واستيراد الكلينكر الذي اصبح ضرورة انسانية ووطنية واقتصادية وصحية، ولا سيما أن الإسمنت في عدد من الدول يبلغ ثمنه اليوم حوالى خمسة وعشرين دولاراً محملاً على الباخرة مقابل 30 دولاراً في بعض الدول المحيطة، كالسعودية، والتي لديها فائض يقدر بـ26.6 مليون طن مثلاً، بحيث لا يكفي اصدار الأذونات بل على الحكومة إقرار خطة لتنظيم وضبط فوضى هذا القطاع عبر إلغاء الرسوم العالية للجمارك، أي إصدار أذونات استيراد الاسمنت الاسود والابيض معفى من اي رسوم لانهاء احتكار الاسمنت وايقاف احراق الفحم البترولي بين بيوت الناس وابتزاز المحتكرين”.
سماسرة الإسمنت
وقال الخبير الاقتصادي باتريك مارديني لـ”نداء الوطن” إن “السماسرة باتوا يتحكمون في السوق بشكل مباشر، مشيراً إلى تعرض الإسمنت للاحتكار والمضاربة، حيث أن أسعار مواد البناء، وتحديداً الإسمنت، تضاعفت ثلاث مرات قبل أيام، إلّا أن منع دخول أي نوع من الإسمنت الأجنبي من الخارج وإقفال باب الإستيراد يترك الساحة أمام تجار السوق السوداء للتحكم واحتكار السوق. فضلاً عن أن هناك ضعفاً في الرقابة الحكومية على الأسواق ما أوصل البلاد إلى حالة يبدو فيها الاقتصاد الموازي للسوق السوداء منافساً للإقتصاد المنظم في العديد من القطاعات”.
من جهته شارك المهندس رياض ضاهر، ما يعانيه من مشاكل مع تأمين الإسمنت للورش التي يستلمها مع “نداء الوطن”، إذ وبحسبه، ارتفعت أسعار مواد البناء وبخاصة “الترابة” إلى حدود مبالغ بها اضطرته إلى وقف العمل إلى حين ايجاد الدولة حلاً ما، ويشرح: “تشهد الأسواق السوداء الموازية ارتفاعاً قياسياً في أسعار الإسمنت نتيجة الطلب الكبير ودفعت البارحة مبلغ مليون و800 الف ليرة لبنانية للطن الواحد على سعر الجملة! بدأ الأمر بارتفاع تدريجي من 450 ألفاً للطن إلى 750 ألفاً ومن ثم إلى مليون و200، وهكذا ترتفع أسعار المواد إلى ما لا نهاية ولا يمكن للوضع الحالي أن يستمر على هذا المنوال. طلبوا منا أن نتصل بالمعمل مباشرة وهنا أقصد معمل سبلين، وهذا ما قمنا به، وبدوا متعاونين في أخذ معلوماتنا وطلبيتنا إلا أنهم لم يرسلوا لنا كيساً واحداً حتى الآن بذريعة كثرة الطلب وقلة القدرة على التوزيع. وفي كل مرة نتصل بهم يعدوننا بإرسال الطلبية “قريباً” من دون جدوى. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه وفي حال لم يُكسر الاحتكار ولم تُعفَ هذه المواد استيراداً من الجمارك لتصل بأسعار تنافس الأسعار الانتاجية للمصانع وتكسر السوق السوداء، لن يُردع أحد”.
في الختام، أمل بألا تتوقف حركة البناء وبخاصة عملية إعادة إعمار بيروت بعد الانفجار، فهل من مجيب؟!
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع نداء الوطن