تحوّل المكيّف في منزل منى إلى قطعة ديكور صامتة، فيما تمضي هي وعائلتها الليالي في انتظار نسمة هواء. تقول منى: “اضطررنا إلى خفض الأمبيرات للحد الأدنى، فأصبحت الليالي رحلة معاناة تمتدّ حتى الصباح. أولويتنا الآن إيجار المنزل والطعام، أما المكيّف فصار حلماً بعيداً”.
في لبنان، يغرق المواطنون في عتمة تتجاوز 20 ساعة يومياً، ويجدون أنفسهم رهائن فاتورة مزدوجة: واحدة لمؤسسة كهرباء لبنان وأخرى لأصحاب المولّدات الخاصة التي ابتلعت رواتبهم بعد رفع الدعم عن المحروقات. توضح منى: “نعيش في الجحيم، كلّ شيء بات مكلفاً، من الطعام إلى أبسط الاحتياجات “.
حتى من لجأ إلى الطاقة الشمسية لم ينجُ من الأزمة. فادي استدان 4 آلاف دولار لتركيب “ألواح شمسية”، إلا أنه بالكاد يشغّل المكيّف لساعات قليلة يومياً، يقول: “أفضل دفع 200 دولار شهرياً لحل مستدام على فاتورة مولّد”.
الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تراكمت عبر عقود من الهدر والفساد والمساومات السياسية التي عطّلت كلّ خطط الإصلاح. ومع الانهيار الاقتصادي، لم تعد الأزمة شأناً داخلياً، بل تحوّلت إلى ملف دوليّ يخضع لشروط المانحين، حيث يربط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أيّ تمويل للقطاع بتطبيق إصلاحات بنيوية فيه.
ويبقى السؤال: هل ملف الكهرباء أولوية حكومية؟ وهل يستطيع لبنان كسر دائرة العتمة والفساد، أم سيظل القطاع عنواناً دائماً للأزمة الاقتصادية؟
عقود من الإهمال
يشكّل الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي واحداً من الهموم المعيشية الكبرى في لبنان، ويلعب دوراً في عرقلة النمو الاقتصادي المأمول.
يقرّ مصدر في وزارة الطاقة اللبنانية بأن “الكهرباء أولوية قصوى في لبنان”، ويوضح لموقع “الحرة” أن “القدرة الانتاجية لمؤسسة كهرباء لبنان لا تغطي سوى نحو ثلث الحاجة الفعلية للكهرباء في البلاد، يترافق ذلك مع هدر تصل نسبته إلى نحو 40%، وهناك 10% هدر تقني ناجم عن قدم الشبكات وضعف الصيانة، وهي نسبة تتجاوز المعدلات العالمية، بينما تشكّل السرقة والتعدّيات على الشبكة ما نسبته 30%، هذا الواقع دفع اللبنانيين للاعتماد بشكل كبير على المولّدات الخاصة وألواح الطاقة الشمسية”.
وكانت البنية التحتية للكهرباء تعرّضت لدمار واسع خلال الحرب الأهلية، ليستنزف بعدها القطاع نحو 40 مليار دولار، أي نحو نصف الدين العام، وفقاً للبنك الدولي.
وفي مارس 2023، أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً بعنوان “كأنك عم تقطع الحياة”، أوضحت فيه أن ساعات التغذية بالتيار الكهربائي تراوحت بين 12 و21 ساعة يومياً حتى عام 2021، قبل أن تتراجع إلى ساعة أو ثلاث ساعات يومياً منذ صيف 2021، نتيجة عجز الدولة عن تأمين العملة الصعبة لاستيراد “الفيول” وهو الوقود المخصص لتشغيل محطات الإنتاج.
في ظل غياب “الكهرباء الرسمية”، يفرض أصحاب المولّدات الخاصة أنفسهم كبديل، وسط احتكار للمناطق والأحياء السكنية في المدن والبلدات المختلفة، متحكمين بالأسعار بعيداً عن أيّ ضوابط فعلية.
وعلى الرغم من صدور تسعيرات رسمية شهرية عن وزارة الطاقة، فإنها غالباً ما تبقى حبراً على ورق، إذ يشتكي المواطنون من فرض أسعار أعلى بكثير تحت طائلة قطع الاشتراك.
وكان معظم وزراء الطاقة السابقين قد أغرقوا اللبنانيين بوعود “كهرباء 24/24” دون تحقيق نتائج ملموسة منذ عقود.
من المسؤول؟
تعدّ المحاصصة السياسية أحد أبرز أسباب فشل قطاع الكهرباء في لبنان، كما هو الحال في بقية مؤسسات الدولة، بحسب الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا.
يشرح أبو شقرا لموقع “الحرة” أنه “مع تأليف أيّ حكومة جديدة، يتجدّد الصراع بين القوى السياسية على تقاسم الحقائب الوزارية، وتتعامل هذه القوى مع المرافق العامة كبوابة للتوظيف والصفقات، ما حوّلها إلى أداة نفوذ بدلاً من أن تكون خدمة عامة”.
تبرز وزارة الطاقة والمياه كنموذج واضح لهذا النهج. عشرات المشاريع والخطط التي طرحت منذ التسعينيات بقيت حبيسة الأدراج، ولم تتمكن مؤسسة كهرباء لبنان من إنتاج ما يكفي من التيار لتلبية احتياجات اللبنانيين.
المحاصصة ليست السبب الوحيد، كما يقول أبو شقرا، “فالهدر والفساد الممتد من صفقات الفيول إلى سوء الإدارة، إضافة إلى البنية التحتية المتهالكة، جعلت قطاع الكهرباء واحداً من أبرز عناوين الانهيار الاقتصادي في لبنان. فالبلاد لا تزال تعتمد بشكل شبه كامل على “الفيول” لتوليد الكهرباء، سواء عبر بواخر تستورد الوقود مباشرة أو من خلال صفقات مقايضة مع الوقود العراقي”.
وفيما يتعلق بالفساد، كشفت فضائح مثل قضية الباخرة “HAWK III” مؤخراً عن هشاشة الرقابة، إذ سُمح بتمرير شحنة روسية عبر مرفأ مرسين التركي بوثائق مزوّرة، لبيع الفيول بسعر 500 دولار للطن، بينما السعر الفعلي لا يتجاوز 340 دولاراً، ما كان سيؤدي إلى خسارة محتملة للخزينة تصل إلى 7 ملايين دولار، وفق بيان مكتب الوزير جو صدي. وأظهرت التحقيقات أن أكثر من 15 ناقلة أخرى استخدمت نفس الأسلوب.
وتؤكد تقارير، بينها تقرير “هيومن رايتس ووتش”، أن أزمة الكهرباء لا تختزل بعجز تقني أو مالي فقط، بل تكشف عن هيمنة النخبة والفساد وسوء إدارة الدولة، ما أدى إلى انتهاك حقوق اللبنانيين الأساسية في العيش الكريم، والتعليم، والصحة، والتنقل، وحتى في بيئة صحّية.
ويشير المصدر في الوزارة إلى أن “التهرّب المتعمد من تشكيل الهيئة الناظمة للقطاع، المنصوص عليها في قانون تنظيم الكهرباء رقم 462 لعام 2002، يعد أحد أبرز أسباب الفشل، فعلى مدى 23 عاماً، تهرّب وزراء الطاقة المتعاقبون من إنشاء الهيئة، خشية فقدان نفوذهم المباشر على القطاع، ما أبقى القرارات الكبرى رهينة الحسابات الفئوية وصفقات النفوذ”.
وتتفاقم الأزمة بفعل التعدّيات الواسعة على الشبكة العامة، وانتشار “خطوط الكهرباء” في الأحياء والقرى، بما يخالف القانون. واقع قابله إعلان مؤسسة كهرباء لبنان مؤخراً بدء حملات لإزالة التعدّيات في محاولة للحد من “الهدر غير الفني”.
أما العوامل الفنية التي تقف خلف الانقطاعات المتكررة منذ 2020، فتشمل، بحسب ما جاء في بيان لمؤسسة كهرباء لبنان، في أغسطس الماضي: نقص في الإنتاج لا يقلّ عن 1000 ميغاواط، وعدم وجود مركز تحكّم بالشبكة بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، وغياب مجموعات إنتاجية تؤمّن ثبات التردد (Frequency) بشكل أوتوماتيكي، وهو معيار عالمي يحتاج إلى قدرة إنتاجية احتياطية”.
خسائر فادحة
تخسر الدول التي لا يتوافر فيها التيار الكهربائي بشكل دائم نحو 3% من ناتجها المحلي السنوي، ولبنان ليس استثناء.
“يستورد لبنان محروقات بنحو 4 إلى 5 مليارات دولار سنوياً، بما في ذلك المازوت والبنزين. يستهلك جزء كبير من هذه المحروقات في تشغيل المولدات الخاصة. هذا النزيف المستمر للعملة الصعبة يزيد من عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات”، يوضح أبو شقرا، ويشير إلى أن “الكلفة الفعلية للكهرباء لأيّ مصنع لبناني لا تقلّ عن 40 سنتاً للكيلوواط/ساعة، مقارنة بـ5 سنتات في مصر و15 سنتاً كمتوسط عالمي. هذا الفارق الكبير جعل المنتجات اللبنانية أقلّ قدرة على المنافسة، وأدى إلى انخفاض الصادرات الصناعية إلى أقل من ملياري دولار سنويّاً، رغم انهيار سعر الصرف”.
وألقت مشكلة الكهرباء بظلالها على قطاع المياه في لبنان الذي تعتمد مؤسساته الحكومية الأربع على المولّدت لتشغيل المضخّات ومحطات التعقيم.
وتشير منظّمة اليونيسف إلى أن اللبنانيين يدفعون ما بين 250 و300 دولار سنوياً لتأمين المياه، أي ما يعادل الحد الأدنى للأجور”.
وينعكس الاعتماد الكثيف على المولدات في الأحياء السكنية على الصحة العامة، إذ تحذّر تقارير منظّمات بيئية من أنها تزيد نسب التلوّث، وترفع معدلات الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي.
وفي أبريل 2024، كشفت النائب نجاة عون صليبا عن دراسة حول التلوّث الهوائي المرتفع في بيروت وتأثيره على صحة القلب والرئتين، إضافة إلى الإصابة بالسرطان في حالات التعرّض المزمن. وذكرت الدراسة أن المواد المسببة للسرطان تضاعفت نتيجة التشغيل الكثيف للمولّدات والتلوث الناتج عنها.
إصلاحات تحت الضغط
لم تعد أزمة الكهرباء في لبنان شأناً داخلياً فحسب، بل تحوّلت إلى ملفّ دولي مرتبط بشروط المانحين، إذ يشترط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تنفيذ إصلاحات بنيوية للموافقة على أيّ تمويل. وقد ربط البنك الدولي دعمه لقطاع الطاقة باتخاذ الحكومة اللبنانية خطوات، منها إنشاء الهيئة الناظمة للقطاع، وضبط الهدر الفني والمالي، فيما يعد ملف الكهرباء شرطاً جوهرياً في أيّ برنامج إنقاذ اقتصادي يُفاوض عليه لبنان مع صندوق النقد، ما يجعل القطاع محوراً أساسياً لمستقبل التعافي المالي والاقتصادي.
في أبريل الماضي، حصلت الحكومة اللبنانية على قرض بقيمة 250 مليون دولار من البنك الدولي، لتمويل مشروع تعزيز النظام الكهربائي والطاقة المتجددة، ورفع إنتاج الطاقة الشمسية إلى 250 ميغاواط، وزيادة قدرة الشبكة على نقل التيار، وإعادة تأهيل ثلاث محطات كهرومائية، وتحسين الكفاءة التشغيلية لشبكة الكهرباء.
كما وقّع صدي في سبتمبر الماضي عقود شراء طاقة (PPA) مع مجموعة CMA CGM، تتضمن منح ثلاث رخص لإنشاء مزارع طاقة شمسية بقدرة إجمالية تبلغ 45 ميغاواط موزعة بين جبل لبنان والشمال والبقاع. وأشار صدي إلى أن الحكومة كانت قد منحت عام 2022 إحدى عشرة رخصة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية بقدرة 15 ميغاواط لكل منها، لكنها بقيت معظمها معلّقة، مع منح أصحاب الرخص مهلة حتى نهاية 2025 لاستكمال الشروط والبدء بالتنفيذ.
وبعد أكثر من عقدين من الانتظار، شكّلت الحكومة اللبنانية الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، بهدف تنظيمه والحفاظ على استقلاليته، وهو مطلب رئيس للجهات المانحة بما فيها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
لكن أبو شقرا يشير إلى أن “إنشاء الهيئة الناظمة وحده لا يكفي ما لم يتم تأمين التمويل اللازم لعملها بكفاءة، مع تحصينها من المحاصصة السياسية”.
الطريق إلى حلّ مستدام
لسنوات عديدة، خصص لبنان عشرات مليارات الدولارات لاستيراد الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، واعتمد على دول أخرى في منحه كميات منها مجّاناً.
ووفّر ذلك حلولاً جزئية ومرحلية للتعامل مع الأزمة، لكنه ربما أجّل البحث عن خطوات وبدائل أخرى لحلول مستدامة.
ويرى خبراء الطاقة أن النهوض بهذا القطاع في لبنان يتطلّب اتخاذ عدد من الخطوات في إطار منظومة حلّ شاملة، ويشيرون إلى ضرورة إنشاء المزيد من معامل الإنتاج ومشاريع الطاقة المتجددة، وإقامة شراكات بين القطاعين الحكومي والخاص، ومكافحة التعدّيات على شبكة نقل التيار وتجديدها، وجباية رسوم الكهرباء دون تساهل.
وبينما يشدد أبو شقرا على أن بعض الحلول المطروحة كاستيراد الكهرباء من قبرص أو الأردن ومصر غير مجد ومكلف وغير مستدام”، وأن الحلّ يكمن في فتح الباب أمام القطاع الخاص والبلديات لإنتاج الكهرباء من مصادر نظيفة ومتجددة”، يقول المصدر في وزارة الطاقة إن الحلول تشمل زيادة الإنتاج عبر إنشاء محطتيْن تعملان على الغاز، كوقود أقل تكلفة وأقل تلويثاً للبيئة، وتعزيز الاستثمار في الطاقة المتجددة، لا سيما الطاقة الشمسية، وتحسين الجباية والحدّ من الهدر”.
ويشدد المصدر على أن “الشراكة مع القطاع الخاص أصبحت أمراً لا مفر منه”.
ورغم الصعوبات والتجاذبات السياسية والمشاكل الأمنية في البلاد، يأمل المواطنون أن يشكّل ملف الكهرباء أولويّة في عمل الحكومة، وأن تستكمل الأخيرة مساعيها وخطواتها لإنهاء الأزمة المعمّرة، علّها بذلك تفتح الطريق أمام نهضة اقتصادية ينتظرونها منذ سنوات.