تشهد طرابلس وشمال لبنان تناقضاً صارخاً يتمثل في كونها المنطقة الأغنى بالبنى التحتية والقدرات البشرية والمرافق الحيوية، بينما تصنف عاماً بعد آخر كالأفقر على البحر الأبيض المتوسط. يعود هذا التناقض إلى عقود من الإهمال الحكومي المتعمد لهذه المدينة والمنطقة، إضافة إلى سياسات اقتصادية أثبتت فشلها في ظل غياب الإصلاحات الجدية..
تطبق الحكومة اللبنانية المركزية بأبشع وأكثر صورها تخلفاً، رغم مناداتها بالعلم باللامركزية. يظهر ذلك جلياً في قطاع المياه، حيث جمعت الحكومة عشرات مصالح المياه الخاصة بالقرى والمناطق في أربع مؤسسات مركزية عام 2000، مما أدى إلى ارتفاع فواتير المياه بشكل مفرط. تقدر هذه الفواتير وفقاً لليونيسف بحوالي 261 دولاراً سنوياً للبيت الواحد، أي ما يعادل تقريباً الحد الأدنى للأجور الشهرية.
يضم الشمال اللبناني مرافق حيوية استراتيجية تشمل دير عمار وخزانات النفط وخط النفط الواصل من العراق، إضافة إلى المرفأ الحيوي. تبقى هذه المرافق مركزية بيد الدولة دون استفادة حقيقية منها، في حين يفترض فتحها أمام المنافسة مع القطاع الخاص وجذب الاستثمارات لتحقيق أقصى فائدة منها.
يعاني لبنان من مشكلة عامة في فقدان التنمية تطال عدة مناطق من البقاع إلى أقصى الجنوب، لكنها تظهر بشكل أكبر في مناطق الأطراف مقارنة ببيروت. لا تتفوق بيروت على طرابلس في الموارد أو البنى التحتية أو القدرات البشرية، إنما يعود التركيز عليها إلى المركزية القاتلة المعتمدة في لبنان.
وضع مشروع قانون اللامركزية الإدارية الموسعة عام 2014، لكنه لا يزال في مجلس النواب دون إقرار كقانون يعزز صلاحيات المناطق والبلديات ويساهم في تطبيق قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
يشكل مطار الرئيس الشهيد رينيه معوض في القليعات مثالاً صارخاً على التأخير السياسي، حيث يحتاج لبنان إليه بأمس الحاجة لتقليل المسافة والوقت للمسافرين من الشمال إلى مطار بيروت. يستغرق السفر من الشمال إلى مطار بيروت وقتاً أطول من الرحلة الجوية ذاتها إلى بعض الدول العربية.
تتعلق مشكلة عدم تفعيل هذه المرافق بعوامل سياسية ومنافع شخصية لجهات تستفيد من الوضع الحالي. ينفق لبنان 5 مليارات دولار سنوياً على استيراد النفط، معظمه لمولدات الكهرباء والبنزين للسيارات، وكانت هذه الفاتورة لتكون أقل بكثير لو توفرت كهرباء مستقرة.
على صعيد الإصلاحات المالية، يرتقب زيارة فريق من صندوق النقد الدولي للبنان لبحث أربع نقاط أساسية: إعادة الإعمار، برنامج الإصلاح، تمويل الإصلاح، وتقييم المصارف بما في ذلك موضوع الفجوة المالية.
لم يقدم مصرف لبنان بعد مشروع قانون الفجوة المالية إلى الحكومة لدراسته وإحالته بدورها إلى مجلس النواب. تشغل الحكومة حالياً بموازنة العام 2026، فيما لن يحوز هذا القانون على موافقة المودعين أو تصويت المشرعين في المجلس النيابي عند وصوله، خاصة مع اقتراب الانتخابات النيابية في 2026.
يتضمن المشروع نسبة كبيرة من قص الودائع وتأجيل دفعها لسنوات، مما يجعل التصويت عليه قراراً انتحارياً سياسياً للنواب. يتوقع تأجيل إقراره في حال وصوله إلى مجلس النواب، مما يعرقل عملية الإصلاحات المنتظرة.
ترتبط أهمية هذا القانون بكونه يوزع الخسائر، كما يرتبط به قانونا السرية المصرفية وإعادة هيكلة المصارف اللذان أقرهما مجلس النواب هذا العام دون تطبيق فعلي لعدم صدور قانون الفجوة المالية.
تظهر مراهنة خطيرة على إنجاز الشق السياسي المطلوب، خاصة فيما يتعلق بحصرية السلاح وتنفيذ بنود وقف إطلاق النار مع إسرائيل، على أمل جذب المساعدات إلى لبنان والاستغناء عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفي والعام وإعادة هيكلة المؤسسات العامة.
على الصعيد الدولي، يستمر الذهب في الارتفاع بظل قيام الفيدرالي الأمريكي بتخفيض سعر الفائدة، حيث خفضها مؤخراً ربع نقطة مئوية إلى 4%. يتوقع المزيد من التخفيضات خلال الاجتماعين المتبقيين للفيدرالي الأمريكي هذا العام، ليس بسبب انخفاض التضخم أو تحسن ظروف الاقتصاد، بل نتيجة الضغط السياسي من الرئاسة والسياسيين الأمريكيين وفي مقدمتهم الرئيس ترامب.
ترتبط الفائدة والذهب بعلاقة عكسية، فكلما تراجعت الفائدة أصبح الاستثمار بالذهب أكثر جدوى. يترافق ذلك مع تحوط المصارف المركزية بشكل كبير بالذهب بسبب التضخم الكبير في العالم الناتج عن الخطأ الجوهري المتمثل في طباعة العملات.
تطبع جميع الدول عملات لتمويل نفقاتها، وطباعة العملات تؤدي للتضخم. كلما طبعت عملة أكثر فقدت قيمتها أكثر، مما يجعل التحوط بالمعادن وفي مقدمتها الذهب الحل الأمثل.
ينخفض الدولار مقابل بقية العملات ويخسر نسبة مئوية سنوية من قيمته، خاصة مع توقع وصول الدين العام الأمريكي إلى 36,000 مليار دولار. تطبع أمريكا كميات هائلة من الدولار فصلياً، مما يخفف من قيمة الدولار، لكنه يبقى قوياً بسبب القوة السياسية والاقتصادية الأمريكية وكونه عملة التحوط الأساسية وأداة التبادل التجاري حول العالم.