لم يكن غرق لبنان في العتمة الشاملة مفاجئا للبنانيين، وهم الذين خبِروا قلّة إنتاج وسوء توزيع التيار الكهربائي بين المناطق لسنوات طوال، والذي تفاقمت حدّته مع انهيار قيمة العملة الوطنية. لكن ما اختلف عليهم اليوم، هو انقطاع التيار الكهربائي عن المرافق العامة، التي لطالما كانت “مضيئة” حتى في أحلك الظروف، ما يشير الى فشل ذريع في إدارة هذا الملف.
وكان اللافت أيضا،على غير العادة في ملفات عديدة، طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من التفتيش المركزي، فتح تحقيق فوري في موضوع الانقطاع الكلّيّ للكهرباء “مع كلّ المسؤولين من دون استثناء، بغية ترتيب مسؤوليات قانونية بناء على نتيجة التحقيقات”.
وعلى أمل أن يثمر التحقيق عن تحديد المسؤوليات والعمل على اجتراح الحلول، أتى إعلان وزير الطاقة في حكومة تصريف الاعمال وليد فياض حول مستحقات، لا بدّ أن تدفعها المؤسسات والإدارات العامة لمصلحة كهرباء لبنان، وأنّ هناك سلفة خزينة بقيمة 6800 مليار ليرة، لم يدفع منها سوى ألف مليار، في إطار وضع الكرة في ملعب الحكومة. على أنّه أشار إلى أنّه يتّم العمل على صياغة حل للمبلغ المتبقي من السلفة، لكي يتم دفعها بأسرع وقت ممكن.
“عتمة” المرافق العامة في لبنان، عرّت جميع المعنيين في هذا الملف بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وبدأت حرب البيانات السياسية في أزمة عمرها أكثر من 30 عاما، لم يعمل أحد من المسؤولين الحاليين والمتعاقبين في وزارة الطاقة والمياه ومؤسسة الكهرباء والحكومة على حلّها جذريا، من خلال وضع خطة إصلاحية تعيد هيكلة المؤسسة وإيقاف الهدر المزمن، والسبب هو المنافع الشخصية ، والتي تتعارض مع تسوية وضع هذا القطاع الحيوي، رغم توافر الحلول.
لكن اليوم طفا الخلاف السياسي على السطح، وهو ما ترجمه بيان نقابة عمال ومستخدمي مؤسسة كهرباء لبنان، الذي طلب من ” جميع الفرقاء تسوية خلافاتهم السياسية بعيداً من مؤسسة كهرباء لبنان، لكي يتسنى لها القيام بواجبها تجاه المواطنين والسير بتنفيذ خطة النهوض بقطاع الكهرباء، خصوصا في هذه الظروف القاهرة”.
ولعلّ الخطوة الوحيدة التي اخترقت “التجميد السياسي” لهذا الملف، هو فرض مؤسسة كهرباء لبنان منذ 1-11-2022 تعرفة جديدة للكهرباء بالدولار( تدفع بالليرة)، عدّلت في 8 حزيران 2023 نزولا، إلّا أنّ هذه الخطوة لم تغطّ النفقات الكاملة للمؤسسة، فحلّت العتمة الشاملة.
رفع التعرفة حصل خلافاً لأيّ
أصول علميّة أو ماليّة
حول السبب، أشار مدير عام الإستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه، والخبير في المعهد اللبناني لدراسات السوق غسان بيضون لـ “الديار” إلى “أنّ رفع تعرفة مبيع الكهرباء في مؤسسة كهرباء لبنان جاء متأخرا جدا، في وقت كانت الخزينة اللبنانية تموّل المؤسسة والمحروقات التي تحتاجها عبر سلفات الخزينة غير القانونية، والتي تسببت بانهيار الليرة والدولة والمالية العامة والمصارف، وأدّت إلى الكارثة الاقتصادية التي لا نزال ندفع ثمنها”، لافتا إلى “أنّ رفع التعرفة حصل خلافا لأي أصول علمية أو مالية أو محاسبية، لأن رفعها لتأمين التوازن المالي للمؤسسة، يجب أن يتّم في إطار مشروع موازنة للمؤسسة، وليس بشكل مستقل عنها”.
وشرح بأنّ “التوازن المالي يعني أن تغطّي الإيرادات المقدّر أن تترتب عن التعرفة الجديدة، كل تكاليف المؤسسة الاستثمارية والإدارية، ولكنها لم تؤمن سوى تغطية مصاريف كهرباء لبنان دون أن تنتج، والدليل التفاهم غير المعلن بين الوزارة والحكومة والمؤسسة، القائل بأن تلتزم الحكومة بتسديد ثمن النفط العراقي، ولكن لم يحصل ذلك فحدث هذا الإشكال، وأوقفوا تزويدنا بالفيول، ووعدونا انو يرجعوا يستأنفوا تزويدنا بآخر شهر آب، وقبل ذلك دخلنا بهذه العتمة الشاملة”.
لماذا التعرفة غير قانونية؟ اجاب بيضون “أنّ التعرفة تضمّنت أخطاء قانونية جسيمة، بإضافة بدل تأهيل غير قانوني “برّروه” بأنه لتعويض العجز المالي المترتب عن دعم الطبقات ذات الاستهلاك المحدود، وأضيف إليها 20% على سعر “صيرفة”، ورأى “أنّ القرار لم يبن على أسس قانونية ونظامية، إذ لم يتم عرضه على مجلس شورى الدولة ، ما يفقده عنصرا جوهريا ويعرّضه للإبطال، فقد وافق عليه وزير الطاقة والمياه من دون عرضه على مجلس الشورى، مرتبا بذلك مخالفة قانونية، وكذلك الأمر بالنسبة لوزير المالية حيث لم تكن الموافقة نهائية بل مشروطة. وما حصل عند التنفيذ يؤكد أن الموافقة من وزارتي الطاقة والمالية تكون قد سقطت بالفعل ولم تعد قائمة”.
ما علاقة مصرف لبنان بما يحصل؟
حول الحديث عن قيود يفرضها مصرف لبنان، وأنّه من تسبّب بهذا الواقع، أكّد “أنّ مصرف لبنان لم يضع أي قيد على تحريك أي مبلغ من حسابات المؤسسة لديه، وأنّه مستعد لاستبدال الليرات التي لدى المؤسسة في حسابات مصرف لبنان بالدولارات”، موضحا “أنّ ما لا يمكن أن يقوم به المركزي هو أن ينفق أو يموّل أي إنفاق على حساب الخزينة، من دون قانون من مجلس النواب، وهذا هو موقف مصرف لبنان”، وأشار إلى أنّه “لا يحق للمؤسسة أو الوزيرأو أيّ جهة أن تنتقد أو تعترض، لأنّ سياسة الهدر والإنفاق غير المحسوب والمخالف للقانون، الذي ارتكب خلال 30 سنة الماضية وأدى الى الانهيار، لا يجوز أن يتكرّر.
سوء إدارة
وفق بيضون، فإنّ “مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة يدّعيان بوجود عراقيل وحصار من الغير، بينما سوء إدارتهم هو السبب في كل ما يحصل”، وقدّر “النتائج المالية لرفع التعرفة من خلال قياس نسبة الهدر الفني وغير الفني، الذي يبلغ حسب موازنة المؤسسة للعام 2024 ، 18% هدر فني، و40% هدر غير فني ( سرقة، تعليق، والإستمداد غير الشرعي من علي شبكة المؤسسة من اللبنانيين والنازحين وغير ذلك”…)، مضيفا بأنّ “نسبة 40% مقدرة على أساس الخطوات والإجراءات التي ستتخذها المؤسسة خلال السنوات القادمة، ما يعني أنّ النسبة حاليا تبلغ أكثر من 40%”، واعتبر “أنّ جوهر المشكلة والعقدة هناك، وأنه مهما وفرنا تمويل للمؤسسة لن تتمكن من استرداد كلفة إنتاجها وثمن المحروقات التي تصرفها، وعدم إسترداد الأموال لشراء محروقات جديدة ، هو المانع أمام إمكان حلّ المشكلة”.
أين تكمن المشكلة؟
رأى بيضون أنّ المشكلة هي في عدم السيطرة على الشبكة والهدر والتعليق والسرقة، والتي تفيد أنّه بأحسن الأحوال يتّم استرداد 40% من قيمة المحروقات، مقابل تعرفة باهظة تعتبر كـ “جزية وخوّة وتشبيح وسلبطة وتشليح” للناس، لأنها تتضمّن رسوما ثابتة ومرتفعة، فقد ألغي بدل التأهيل و الـ 20% عن “صيرفة”، ولكن تمّت إضافتهم إلى رسم الاشتراك. فإذا استهلك المشترك أو لم يستهلك كهرباء، سيدفع مبلغا كبيرا خلال الشهر، بمعنى “إذا واحد صرف 20 كيلوواط بشهرين بتطلع فاتورته مليونين وخمسمئة ألف ليرة، وهذا إسمه تشبيح وسرقة وظلم للناس ويجب أن يتوقف”.
وجزم أنّ هناك غموضا و كتمانا وعدم اعتراف بالحقيقة، وعدم جدية في المتابعة من قبل الحكومة أو مجلس النواب، وبالتحديد لجنة الأشغال والطاقة في المجلس، لذلك تسير الأمور باتجاه الأسوأ، لأن الخطة لم تكن مدروسة ومبنية على أسس مالية أو محاسبية صحيحة ومخالفة للأصول، و”كل الهدف منها أن يمدّوا يدهم على جيب المواطن وياخدوا أموالا بالقوة، وحتى لما المواطن رضخ وقبل أن يدفع هذه الأموال والتعرفة… لم تفلح المؤسسة بأن تسترد أموالها لحتى تقدر تشتري محروقات”.
وختم بيضون بأنّنا لا نزال ندور في نفس الدوامة عبر سوء إدارة “أسوأ من سيء”، ونهج مستمر بوزارة الطاقة لا يجوز أن يستمر، طريقة تفكير خاطئة بالمعالجة مبنية على الصدمة والترقيع، وهذا لن يؤمن استمرارية المؤسسة، ولفت بأنّ هناك حاجة ماسّة إلى تأمين مصدر محروقات مستدام ومستقر من نفس النوعية والمصدر، ولكن “وهذا ما لا يريدون الإلتزام به لكي تبقى الفوضى سائدة، وتبقى لديهم
الحرية في تحقيق المنافع والأرباح، على حساب هذا القطاع دون وازع ودون ضمير”.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع الديار