في أول مؤتمر صحافي للقائم بأعمال حاكم مصرف لبنان المركزي شرح وسيم منصوري الخطوط العامة للسياسة النقدية التي سيتبعها “المركزي”، بدءاً من الأول من أغسطس (آب) المقبل. شعار المرحلة الجديدة سيكون بما تبين من عرض منصوري “التدريج”، وذلك في مسألتين شائكتين هما وقف تمويل الحكومة وتحرير سعر الصرف الليرة. وقال “إن أي تمويل للحكومة من الآن يجب أن يكون لمدة محددة وأخيرة، ويجب أن يكون مشروطاً بالقدرة على رد الأموال”. ووصف سياسة الدعم لبعض السلع بأنها غير صحيحة. وطالب بتنفيذ سلسلة القوانين الإصلاحية في فترة ستة أشهر، معتبراً أن هذه الفترة ليست قصيرة إذا حصل تعاون بين القوى السياسية التي يجب أن تبعد الوضع النقدي عن التجاذبات فيما بينها. وحذر من أن “موجودات المصرف محدودة، لذا لا بد من الانتقال إلى وقف تمويل الدولة بالكامل”، جازماً بأنه لن يوقع على أي صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاته أو خارج القانون.
وشدد منصوري على أن تشريع الصرف من التوظيفات الإلزامية من مصرف لبنان يجب أن يكون مشروطاً برد الأموال، ولفترة محددة ومشروطة، وسيسمح القانون بدفع الرواتب بالدولار وفق منصة “صيرفة”.
وفي شأن سعر صرف الليرة أوضح أن “تحرير سعر الصرف وتوحيده يجب أن يتم بالتدرج حفاظاً على الاستقرار، وهذا القرار يتخذ بالتوافق مع الحكومة، وتواصلنا مع القوى الأمنية والقضاء للقضاء على التلاعب بسعر الصرف، وما يعزز الاستقرار النقدي هو القانون الذي ستطلب الحكومة إقراره”.
نهاية ولاية سلامة
وتنهي اليوم الإثنين 31 يوليو (تموز) 2023 حقبة تاريخية من “عصر” رياض سلامة الذي أدار السياسات النقدية والمالية طيلة 30 سنة على رأس حاكمية مصرف لبنان الذي أنشأ قبل 59 عاماً، حيث جددت الحكومات المتعاقبة منذ عام 1993 ولايته خمس مرات متتالية، لتصبح ولايته الأطول بين حكام البنوك المركزية في العالم.
وبسبب عجز الحكومة اللبنانية عن تعيين حاكم جديد، يتولى نائبه الأول وسيم منصوري منصب حاكم المصرف المركزي الذي ينتقل إلى الطائفة الشيعية للمرة الأولى في تاريخ لبنان، إذ بموجب توزيع المواقع الرئيسة في البلاد حاكمية مصرف لبنان من حصة المسيحيين الموارنة.
وبحسب قانون النقد والتسليف، يعين الحاكم لولاية لست سنوات، بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية، ويتعين على الحاكم الجديد أن يؤدي القسم أمام رئيس الجمهورية، علماً أن المنصب الشاغر في البلاد منذ تسعة أشهر.
وبعد أسابيع من الـ”تهديدات” بإمكانية استقالة نواب الحاكم بعد انقضاء ولاية سلامة، سيبقى هؤلاء في مناصبهم، ويتولى منصوري منصب الحاكم بصفة موقتة، وإلى جانبه النواب الثلاثة الآخرين هم سليم شاهين (سني) وبشير يقظان (درزي) وألكسندر موراديان (أرمني كاثوليكي).
انتقال القرار المالي
وفي هذا السياق كشف مصدر في مصرف لبنان مقرب من سلامة، عن أن “التلويح بالاستقالة لم يكن جدياً، وأن هدفه سياسي لتبرير تحويل سلامة إلى كبش محرقة وإلصاق جميع أنواع التهم به”، مؤكداً أن منصوري كان متحمساً لتولي المسؤولية، كاشفاً عن أن سلامة بدأ تسليمه كل الأعمال الإدارية منذ ستة أشهر، ونسق ارتباطه مع المصارف المركزية في العالم، إضافة إلى تسجيل توقيعه لدى البنك الفيدرالي الأميركي.
واستغرب حديث نواب الحاكم عن رفضهم وعدم علمهم بالسياسات المالية والنقدية في عهد سلامة، إذ يؤكد أن كل القرارات والتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان تم التصويت عليها في المجلس المركزي وتم تذييلها بتواقيعهم، وتخوف أن تكون تلك الضجة السياسية حول تسلم نواب الحاكم المرحلة الموقتة، لتغطية انتقال الموقع من الموارنة إلى الشيعة، بالتالي سيطرة الثنائي “حزب الله” وحركة “أمل” على القرار المالي بعد أن بات القرار الأمني والسياسي في البلاد بعهدتهما.
إنجازات عديدة
وفي السياق كشف الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل عن أن التحدي الأول لسلامة منذ توليه منصبه كان التضخم المفرط الذي استطاع السيطرة عليه من خلال تثبيت سعر صرف الليرة طيلة 25 سنة، الأمر الذي أبقي المعدل السنوي للتضخم في لبنان أقل من ثلاثة في المئة، بينما كان يبلغ 10 في المئة بالأسواق الناشئة.
واعتبر أن مرحلة سلامة حفلت بإنجازات عديدة منذ عام 1993، أبرزها تقوية القطاع المصرفي الذي أدخل إلى البلاد أموال طائلة أسهمت في إعادة الاعمار والتطوير الاقتصادي، كذلك رفع نسب الاحتياطي من العملات الأجنبية، حيث تخطى في بعض الأوقات الـ40 مليار دولار. وقال “يضاف إلى إنجازات مصرف لبنان شطب لبنان عن لائحة مجموعة العمل المالية لمكافحة تبييض الأموال عام 2001، كما تم إنشاء الهيئة الخاصة المستقلة لمكافحة تبييض الأموال”.
وأشار إلى أن إنجازات إضافية منها مسألة القروض السكنية المدعومة ساعد على خفض الفائدة على القروض السكنية، وهذا أدى إلى طفرة في القطاع العقاري بشكل لافت، كما أدى إلى تملك 122 ألف شخص منازل في هذه الفترة، ومسألة دعم الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا.
إلا أنه في المقابل أشار إلى الأسباب التي أدت لفشل مصرف لبنان أبرزها تمويل الدولة والعجز، وبالتحديد عجز مؤسسة كهرباء لبنان الذي كان يعتمد دائماً على سلفات خزانة من مصرف لبنان، إضافة إلى العجز في الموازنة أيضاً، والذي كان يجري تمويله من مصرف لبنان، حيث لم يكن هناك أي انضباط في إدارة المالية العامة، مذكراً بالنصائح التي أعطاها سلامة للسياسيين وعلى سبيل المثال ضرورة اعتماد مقاربة أخرى في إقرار الزيادات على سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 التي كانت من أبرز أسباب التضخم.
الخيار الخاطئ
في المقابل اعترف المتخصص في الشأن الاقتصادي باتريك مارديني بنجاح السياسة النقدية في المرحلة التي امتدت من عام 1993 إلى 2014، حيث كانت “سياسة محافظة، وكان هناك استقرار في سعر صرف الليرة، وكان (المركزي) قادراً على جذب رؤوس أموال إلى لبنان”، في حين اعتبر أن المرحلة الثانية امتدت بين عامي 2015 و2019 عندما بدأ خروج الرساميل من لبنان، كان الدين العام يمول إجمالاً من طريق المصارف اللبنانية والمصرف المركزي لم يكن يمول الحكومة، بل يحمل سندات خزانة تقريباً بنسبة في المئة.
وأوضح أنه في عام 2015 قررت المصارف ألا تحمل سندات الخزانة لأنها لم يعد لديها ثقة بالحكومة اللبنانية وقدرتها على سداد ديونها وحصل إشكال بين المصارف والحكومة اللبنانية انتهى بتدخل المصرف المركزي بما يسمى الهندسات المالية التي عملت على عدم شراء المصارف سندات الخزانة بحيث تضع أموالها في المصرف المركزي والمصرف المركزي هو من يدين الحكومة اللبنانية، بالتالي حصل تغيير جذري في السياسة النقدية، إذ خرجنا من سياسة نقدية محافظة.
ولفت إلى أن المرحلة الثالثة التي بدأت عام 2019، “طرأ أمر جديد، وهو طباعة العملة بشكل ضخم جداً نتيجة عدم قيام الحكومة بإصلاحاتها وبقاء نفقاتها على مستويات مرتفعة ومن أجل تسييل جزء من الفجوة المصرفية، بمعنى أن المصارف كان لديها أموال في المصرف المركزي وهو بدوره كان يرد الأموال بالليرة اللبنانية للمصارف وزبائنها”، مستنتجاً أن سلامة نجح في تقديم ثبات في سعر صرف الليرة حتى عام 2015،” لكن خيار تأجيل الأزمة كان خياراً خاطئاً وندفع ثمنه منذ 2019 حتى الآن”.