خاص www.limslb.com :تفكيك احتكار أوجيرو مدخل إلى إصلاح الإنترنت وزيادة عائدات الدولة

خاص www.limslb.com :تفكيك احتكار أوجيرو مدخل إلى إصلاح الإنترنت وزيادة عائدات الدولة

ملخص تنفيذي

تحتكر الدولة اللبنانية عبر هيئة أوجيرو خدمة الإنترنت في لبنان. فهي المُستقدم الوحيد للخدمة من وراء البحار، والموزع الحصري على المشتركين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات، والمزود الوحيد لشركتي الاتصالات الخلوية mic1 وmic2 المعروفتين بأسمائهما التجارية “تاتش” و”ألفا”. كما تعتبر أوجيرو الجهة الوحيدة التي تتمتع بحصرية بيع الإنترنت لشركات توزيع الإنترنت الخاصة عبر الهوائيات. وعلى غرار كل الاحتكارات، فقد أدى الانفراد بالخدمة إلى ارتفاع كلفتها وتراجع جودتها. وقد بدأت النتائج السلبية للاحتكار تظهر تباعاً مع اندلاع الأزمة، حيث عجزت أوجيرو عن تأمين الخدمة بسبب ارتفاع كلفتها بالمقارنة مع مدخولها، فترهلت بنيتها التحتية، وتعطلت خدماتها بإضراب الموظفين الذين فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية، وعجزت عن تنفيذ عمليات التوسع وتأمين الصيانة. ولعلّ ما زاد الأمور سوءاً الانقطاع شبه الكامل للكهرباء وعجز مولدات الشركة عن تأمين البديل بسبب تعطلها الدائم وارتفاع كلفة المازوت. ولم تنحصر تداعيات هذا الواقع في تعطيل أعمال المشتركين الأفراد، بل ساهمت في تقويض الاقتصاد وتهريب الاستثمارات وحرمان البلاد من مصدر دخل بالعملة الصعبة. وقد وصلت الأمور في بعض الأحيان إلى حدود التهديد بعزل المؤسسات اللبنانية بعضها عن بعض وعن العالم بسبب رداءة قطاع الإنترنت. وعلى أيّة حال، ما زال لبنان يحتل أدنى المراتب في سرعة الإنترنت بين دول العالم، وذلك على الرغم من أنه كان السبّاق في إدخال أحدث تقنيات الاتصال خلال الأعوام السابقة. وعليه، تقترح هذه الورقة إعادة الحياة إلى هذا القطاع عبر تحريره من الاحتكار وفتحه للمنافسة الشفافة بين شركات القطاع الخاص بما يساهم في تحسين الخدمة وتخفيض كلفتها.

1- أوجيرو تحتكر الإنترنت

أزالت الأزمة الاقتصادية “الضباب” عن الطريق الذي يسلكه قطاع الاتصالات في لبنان، فانقشعت الرؤية على مسار مشابه لذلك الذي سارت عليه الكهرباء. فالقطاع الذي نجح حتى الأمس القريب بتغطية “عورة” احتكاره من الدولة بـ “ورقة تين” زيادة إيراداته عن نفقاته على حساب الخدمة الجيدة، تعرّى كلياً مع استفحال الانهيار.

وينقسم قطاع الاتصالات في لبنان إلى شقين رئيسيين:
– الاتصالات الخليوية مع ما تقدمه من خدمة الإنترنت (3g & 4g).
– الاتصالات الأرضية وخدمة الإنترنت عبر النطاق العريض الثابت (مقدمي خدمات البيانات –DSP ومقدمي خدمات الإنترنت – ISP.) ولعلّ القاسم المشترك بين النوعين هو احتكار “أوجيرو” لخدمة الإنترنت.
وتمثل أوجيرو اليد التنفيذية لوزارة الاتصالات، وتستحوذ على البنية التحتية الأساسية لجميع شبكات الاتصالات والإنترنت بما في ذلك مشغلو الخلوي وموزعو الإنترنت. وقد توسع دورها بالمرسوم رقم 3269 تاريخ: 19/06/2018 الذي أجاز لها أعمال تشغيل المنشآت والتجهيزات وصيانتها وتحديثها وتوسعتها وجباية الفواتير لصالح وزارة الاتصالات، على أن يتم توصيف الأعمال وكلفتها وآلية تنفيذها ومراقبتها حسن التنفيذ بموجب عقد اتفاق رضائي شامل يُجدد سنوياً يُعقد بين الوزارة والهيئة.

2- تراجع إيرادات أوجيرو يعطل خدمة الإنترنت ويلحق الخسائر بقطاع الأعمال
تعاني هيئة أوجيرو في مقابل هذه الصلاحيات الواسعة من انهيار إيراداتها بالمقارنة مع نفقاتها. فموازنة الهيئة للعام 2022 بلغت 48.3 مليار ليرة، أي ما يعادل نحو 500 ألف دولار بسعر صرف اليوم. ولا يكاد هذا المبلغ يكفي سوى لسداد ثمن المازوت للمولدات لمدة عشرة أيام فقط لا غير، فما بالنا ببقية المتطلبات من شراء الإنترنت من الخارج بـ “الفريش” دولار، والصيانة وقطع الغيار… وغير ذلك الكثير من المتطلبات. كما يعاني موظفو أوجيرو البالغ عددهم حوالي 2500 موظف من تراجع مداخيلهم بنسبة موازية لانهيار سعر الصرف المقدرة بـ 95 في المئة، فيُضرِبون بين الحين والآخر لتحصيل بعض الحقوق على الراتب أو زيادة بدل النقل، ويتعطل معهم أكثر من 2000 سنترال منتشر على كل الأراضي اللبنانية، وتنقطع خدمة الإنترنت بشكل جزئي أو كلي.
3- الإنترنت في لبنان أسوأ خدمة بأعلى تعرفة
خلافاً للكثير من الآراء، لم يكن الإنترنت في لبنان أفضل حالاً قبل الانهيار. صحيح أنه لم يكن ينقطع بالوتيرة التي نشهدها مؤخراً، إلا أنه كان الأبطأ في العالم والأكثر كلفة. فبحسب التصنيف العالمي لسرعة الإنترنت ذات النطاق العريض (Broadband) للعام 2018، احتل لبنان المرتبة 160 من أصل 200 دولة؛ وبلغت سرعة الإنترنت ذات النطاق العريض في لبنان 1.6 “ميغا بت” في الثانية، بالمقارنة مع المتوسط العالمي البالغ 9.1 “ميغا بت” في الثانية. وقد عاد لبنان ليتراجع إلى المرتبة 163 من أصل 181 بلداً في العالم في سرعة الإنترنت للعام 2022، بسرعة بلغت 7.37 “ميغا بت” في الثانية، مقابل وصول سرعة الإنترنت في تشيلي مثلاً إلى 217 “ميغا بت” في الثانية.
وإذا أردنا أن نعطي مثالاً تطبيقياً، يمكننا أن نقول إنّ مشتركاً بسرعة تتراوح بين 25 و30 “ميغا بت” في الثانية، وهي السرعة القصوى المتاحة في لبنان خلال فترات الليل فقط من قبل شركات التوزيع الخاصة، يحتاج إلى ما بين 2.5 و3 ساعات من الوقت لتحميل فيديو بحجم 30 جيجابايت، في حين لا يأخذ فيديو بنفس الحجم أكثر من 40 دقيقة في تركيا حيث يعتبر الإنترنت أسرع بثلاث مرات منه في لبنان.
في المقابل، يكلّف الحصول على خدمة 25-30 “ميغا بت” في الثانية في لبنان 100 دولاراً، يُضاف إليها اشتراك شهري بقيمة 40 دولار، تدفع كلّها بـ “الفريش” دولار للشركات التي تأخذ الإنترنت من أوجيرو، في حين تبلغ كلفة الاشتراك الشهري في إنطاليا بتركيا أو جورجيا مثلاً وبخدمة 100 “ميغا بت” اللامحدودة 7 دولارات شهرياً.
4- أوجيرو تبيع خدمة الإنترنت بأسعار مختلفة وباستنسابية مطلقة
لعلّ المشكلة الثانية التي لا تقل أهمية لدى أوجيرو هي وجود سعرين: الأول لخدمة DSL التي تقدمها لنحو 500 ألف مشترك، والآخر لخدمة شركات الإنترنت الخاص التي تشتري الإنترنت من أوجيرو وتبيعه لنحو 600 ألف مشترك. ويُعتبَر الفرق في السعرين كبيراً للغاية، مع العلم أن شركات الإنترنت تأخذ خدمة الـ E1 على سعر 475 ألف ليرة وتبيعها لمشتركيها بقرابة 200 دولار.
5- زيادة أسعار الإنترنت لا تؤدي إلى تحسن الخدمة
أمام هذا الواقع، زادت وزارة الاتصالات أكلاف الإنترنت في تموز 2022 مع الاتجاه لزيادتها مجدداً في القريب. وقد رفعت الوزارة في المرة الأولى أسعار خدمات “أوجيرو” ضعفين ونصف الضعف. وقد احتُسِبَت الأسعار يومها على أساس 25 ألف ليرة للدولار. وعلى سبيل المثال، فقد كان اشتراك 2MBPS يكلف 60 ألف ليرة فأصبح 175 ألفاً. في المقابل، لم تزدَد الأجور في ذلك الوقت إلا بنسبة 3.8 أضعاف، حيث ارتفعت من 675 ألف ليرة إلى 2.6 مليون على دفعتين.
وقد بقيت هذه الزيادة ناقصة ولم تكفِ لرفع موازنة الهيئة، وتتجه وزارة الاتصالات إلى رفع التعرفة مرة أخرى بمقدار سبعة أضعاف قريباً. وعليه يصبح اشتراك 2MBPS يكلف 1.250.000 ليرة أو ما يعادل 13 في المئة من الحد الأدنى للأجور المحدد بـ 9 ملايين ليرة، وذلك على الرغم من أن سعر المازوت الذي يشكل 50 في المئة من كلفة أوجيرو لم يزدد بأكثر من ضعفين منذ تاريخ الزيادة الأولى، فيما ارتفع سعر الصرف بمقدار 3.3 أضعاف فقط.
6- المشاكل الناتجة عن سوء خدمة الإنترنت
شكّل بطء الإنترنت وارتفاع كلفته عاملاً طارداً للاستثمار، ولا سيما خلال سنوات الأزمة التي ترافقت مع انتشار جائحة كورونا والإقفال العام واضطرار الأفراد والمؤسسات إلى العمل من المنزل، فخرجت الكثير من المؤسسات من لبنان وهاجر الشباب إلى وجهات مثل تركيا وجورجيا ومصر سعياً للعمل عن بعد لمصلحة طرف ثالث، وخسر لبنان مورداً كان يؤمن “الفريش دولار”. وفي المقابل، توسعت ظاهرة الإنترنت غير الشرعي. فهذا الاتصال بالإنترنت الذي يستجلب بعضه من الأقمار الصناعية ويأتي بعضه الآخر من دول الجوار مثل فلسطين وتركيا عبر سوريا أرخص على المشتركين من الإنترنت الشرعي، كما يخلو عادةً من الانقطاع. إلا أن سلبيات الإنترنت غير الشرعي على الاقتصاد لا تعد ولا تحصى: فهو يؤدي إلى تراجع إيرادات الدولة، وبالتالي إلى عجزها عن تلبية متطلبات موظفيها، ويعزز الاقتصاد النقدي ويساهم في تعميق الاقتصاد الأسود المتفلت من أي ضوابط؛ هذا عدا عن أن التخلف في قطاع الإنترنت يعزز اللامساواة ويتناقض مع ما تطمح الأمم المتحدة إلى تحقيقه من نمو وتنمية في بلدان العالم الثالث.
على أيّة حال، لا ينعكس رفع تعرفة الإنترنت بشكل مباشر على “أوجيرو”. فالإيرادات تذهب إلى الخزينة العامة لا إلى صندوق أوجيرو. وتخصص الموازنة الأموال للهيئة من ضمن الموازنة العامة أو من السُلَف أو خلاف ذلك من الطرق. ولا يجوز بحسب القانون اللبناني تخصيص إيراد لنفقة معينة؛ وعليه، لا تؤدي زيادة الاشتراكات على المواطنين الهدف المنشود منها بتحسين الخدمة وإنصاف الموظفين. وقد أثبت هذا الواقع تقرير ديوان المحاسبة الذي أفاد بأن أكلاف تشغيل الشبكة التي تضمّ 4 ملايين مشترك بلغ بين 2010 و2020 6 مليارات دولار، أي 32 في المئة من العائدات، وهو رقم خيالي وفقاً للتقرير. ولم يُوظّف قسم من عائدات قطاع الاتصالات في تحسين القطاع واستثمار أمواله في البنى التحتيّة. ولعلّ آخر ما حاولت وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو تنفيذه كان مدّ شبكة الألياف الضوئية “الفايبر أوبتك”. وعلى الرغم من أهمية هذه الشبكة، إلاّ أنّه لم يُنجَز منها سوى 25 في المئة قبل أن تتوقف الأعمال بسبب الأزمة المالية.
7- العودة إلى اقتصاد السوق يضمن تطور القطاع وزيادة عائدات الدولة
لم يكن للمشاكل السابقة الذكر، والتي تشكل “القبع من الربع” من الفشل المزمن في إدارة القطاع، لتتأتى لولا تدخل الدولة في قطاع الاتصالات. فإضافةً إلى كون الدولة “رب عمل فاشلاً”، فهي في لبنان رب عمل فاسد ومرتشٍ، وقد تحوّل القطاع تحت رعايتها إلى محميات للتوظيف السياسي والحصول على الصفقات من الملزّمين والمتعهدين، وهذا ما كشفه تقرير ديوان المحاسبة الذي بيّن وجود هدر في قطاع الاتصالات بقيمة 6 مليارات دولار منذ العام 2010.
وعليه، يبدأ الحل بتخلي الدولة بشكل مطلق عن القطاع وكف يدها عن مؤسساته وهيئاته وشركاته المتنوعة وحصر دورها في الإشراف والرقابة ووضع السياسات العريضة من خلال إعادة تفعيل دور الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات التي أقرها القانون 431/2002 وتعيين مجلس إدارة جديد لها. وقد أنيط بهذه الهيئة تحرير قطاع الاتصالات وتنظيمه وتطويره وتشجيع الاستثمار والمحافظة على استقرار السوق.
ويتطلب الحل ثانياً عودة الدولة اللبنانية إلى قواعد السوق. إذ لا شيء أقدر على تحسين جودة الاتصالات والإنترنت وخدمتهما من العرض والطلب في سوق مفتوحة وشفافة. ويرتبط ذلك بشكل جوهري بوجود الهيئة الناظمة للقطاع، وهي الهيئة الموكلة مراقبة السوق منعا لأي إساءة استعمال للقوة التسويقية وتلافياً للممارسات المناهضة للمنافسة بين الشركات. وتأكيداً على أهمية فتح القطاع وتشجيع المنافسة بين الشركات فيه، فقد أكدت فلسفة القانون 431 على أن إنشاء الهيئة الناظمة للاتصالات يُعتبَر علامة بارزة تشير إلى انطلاق عملية تحرير قطاع الاتصالات اللبناني وإعادة هيكلته.
وعليه، ينبغي ترك كل ما يتعلق باستجلاب خدمة الإنترنت وبيعها والعلاقة مع المشتركين للقطاع الخاص عبر إفساح المجال أمام دخول أكبر عدد من شركات القطاع الخاص سوق الاتصالات والإنترنت والمنافسة في بيع الخدمة وتحصيل الإيرادات.
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فلا مانع من بقاء أوجيرو شركةً منافسة تقدم خدمة الإنترنت مثل سائر الشركات. ويكون الأفضل أن تتم العملية من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص تبعا للقانون 48/2017 بعد تعديله وجعله قابلاً للتطبيق. ولا تساهم هذه الطريقة في تحسين الخدمات وتخفيض الأكلاف فحسب، بل تساهم أيضاً في زيادة الإيرادات العامة للخزينة.
فتوسيع مروحة الشركات التي تستقدم الإنترنت وتبيعه للمشتركين يريح الدولة من الأكلاف التشغيلية التي تمتص أكثر من 50 في المئة من مداخيل القطاع ويوفر على الدولة أجور آلاف المستخدمين والعمال، خصوصا مع ما تتطلبه المرحلة الحالية من زيادة مداخيل الموظفين وتأمين بدلاتهم الصحية والاجتماعية وأجور نقلهم، ناهيك طبعاً عما يضيفه ترك إدارة الاتصالات للقطاع الخاص من تشجيع المشتركين على الاستهلاك، لا إثقالهم بالرسوم العالية ودفعهم إلى التقشف في استعمال خدمات الاتصالات العريضة والمتنوعة كما هو الحال اليوم.
أما من حيث المردود على الخزينة، فسيرتفع حكما لسببين: الأول يتعلق بوقف الإنفاق مع ما يتضمنه ذلك من هدر، والثاني بتحصيل الدولة الضرائب والرسوم أو عوائد الأرباح من شراكتها مع القطاع الخاص، وهكذا يجني الجميع ثمرات هذا الإصلاح.

فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق