تبدأ الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة الجديدة بعدما دخلت الحكومة المستقيلة، منذ شهر تقريباً، مرحلة تصريف الأعمال، وهي مرحلة يمكن أن تطول، ممّا يُلقي على المجلس النيابي مسؤولية التحرّك والمبادرة لإنقاذ الاقتصاد، من دون هدرٍ للوقت أو مضاعفة الخسائر. فالبلاد بأشدّ الحاجة إلى قرارات سريعة وشجاعة للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية غير المسبوقة.
وبعد المذكرة الأولى التي وجّههوها إلى النواب الجدد، والتي أوردوا فيها مقترحاتهم لتلافي معالجة الفجوة المالية القائمة عن طريق الشطب التعسّفي للديون – على ما ورد في الخطة – وجّه 8 من خبراء الاقتصاد والقانون مذكّرة إلى النواب الجدد (سمير المقدسي أستاذ اقتصاد ووزير سابق للاقتصاد والتجارة، جورج قرم أستاذ اقتصاد ووزير سابق للمالية، ناصيف حتّي وزير سابق للخارجية، نقولا تويني وزير سابق لشؤون مكافحة الفساد، غسّان العيّاش أستاذ الماليّة العامّة ونائب سابق لحاكم مصرف لبنان، لينا التنّير أستاذة إدارة الأعمال، عادل معكرون مستشار قانوني، رياض سعادة اقتصادي ومدير المركز اللبناني للأبحاث والدراسات الزراعية)، لإعطاء الأولوية لمعالجة الأزمة المصرفيّة والماليّة، خصوصاً بعد أن انقضى وقت طويل منذ بدء الانهيار المصرفيّ والنقديّ من دون أن تتّخذ السّلطات أيّ تدبير فعّال لمعالجة انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية، فيما الدول التي تعرّضت لأزمات مماثلة بادرت منذ اليوم الأوّل إلى القيام بإجراءات شاملة وموجعة لوقف الانهيار والخروج من الأزمة بأسرع وقت.
ونوّه هؤلاء بلجنة المال والموازنة ولجنة الإدارة والعدل اللتين اجتمعتا ووضعتا برنامج عملهما للفترة المقبلة، والذي يتضمّن مشاريع القوانين الأساسية ومنها: قانون موازنة 2022، قانون السلطة القضائية، قانون الضوابط المؤقّتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية، ومشاريع القوانين الأخرى المتعلّقة بالاتّفاق مع صندوق النقد الدولي.
ووفق المذكرة، فقد شهدت البلاد مبادرات متعثّرة للإنقاذ، من أهمّ أهدافها سدّ الخسائر الكبيرة في النظام المالي، التي تقدّر بنحو 350% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. ونشير هنا بالتحديد إلى خطّة التعافي الأولى لحكومة الرئيس حسّان دياب، وخطّة التعافي الثانية لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ومع ذلك، لم تهتدِ الدولة حتى الآن إلى طريق التعافي المنشود لأجل استعادة الثقة بالنظام المصرفي وإعادة الودائع إلى أصحابها. فقد شكّل توزيع الخسائر على الأطراف المعنية موضوع اختلاف كبير بين عدّة جهات: الحكومة والمجلس النيابي ومصرف لبنان والمصارف والهيئات الاقتصادية ووسائل الإعلام، ممّا عطّل، ولا يزال يعطّل، التوصل إلى قرار بشأن خطة الإنقاذ.
وأكد الخبراء الثمانية أن من واجب المجلس النيابي الجديد أن ينكبّ على درس هذه المسألة وبتّها من دون إبطاء للتعجيل في إعادة الحقوق إلى أصحابها وإحياء النظام المصرفي من جديد، مع الحفاظ على الملكيّة الخاصّة وركائز الحرّية الاقتصادية.
وبرأينا أن الدولة تتحمّل المسؤولية الكبرى عن المصير الذي وصل إليه النظام المالي والاقتصادي، وقد شاركها في ذلك مصرف لبنان الذي لم يتوانَ عن تمويل العجوزات المتزايدة للموازنة على مرّ السنين، وهدر الاحتياطات الوطنية بالعملات الأجنبية دعماً لسياسة سعر الصرف المنفصلة عن الواقع.
فالسبب الأول للكارثة – برأيهم – يكمن في سوء إدارة المالية العامة وتراكم عجوزات الموازنة، سنةً بعد سنة، من دون أن تبدي الحكومات المتعاقبة الحدّ الأدنى من الإرادة والتصميم على وقف الحلقة الجهنّمية في تراكم عجز الموازنة وتعاظم الدين العام.
من جهة أخرى، فإن خسائر مصرف لبنان نتيجة تسليفاته المتواصلة للدولة وسياسة سعر الصرف المتهوّرة قدّرتها الخطة الحكومية الأخيرة بمبلغ 60 مليار دولار أميركي، وهي أكبر فجوة في الميزانية الموحّدة للقطاع المالي.
وحمّل الخبراء الدولة المسؤوليّة الكبرى عن خسائر المصرف المركزي، مّما يلزمها بالمساهمة مساهمة رئيسيّة في ردمها حماية لحقوق المودعين في المصارف اللبنانية.
أما أهمّ الأسباب التي دفعتهم إلى الاعتقاد بأنّ الدولة تتحمّل المسؤولية الكاملة عن خسائر مصرف لبنان فهي الآتية:
1. بالرغم من الاستقلالية التي خصّ بها قانون النقد والتسليف مصرف لبنان، فإن للدولة تبقى سلطة معنوية على عمل القطاع العام وسائر مؤسّساته، ممّا يفرض عليها واجب مراقبة هذه المؤسّسات وتوجيهها ضمن سياسات الدولة، ولمصلحة المجتمع اللبناني ككلّ. إنّ استقلاليّة مصرف لبنان التي كفلها قانون النقد والتسليف ووسع إطارها لا تحول دون ممارسة الدولة واجب الرقابة والتوجيه والتنسيق بين السياسات العامة.
2. إن الصلاحيات الواسعة التي أناطها قانون النقد والتسليف بمفوض الحكومة لدى مصرف لبنان تجعل الحكومة شريكاً فعلياً للمصرف المركزي في قرارته الكبرى وتوجّهات سياسته النقدية، وكذلك في سياسة سعر الصّرف التي اتّبعت في الأعوام الأخيرة، لا سيما منذ سنة 2015، عندما استنفد المصرف احتياطاته الخاصّة بالعملات، وبدأ باستعمال توظيفات المصارف لديه لتثبيت سعر الصرف. فرقابة مفوضية الحكومة، التابعة لوزير المالية، تشمل حق الرقابة على أدق التفاصيل في المصرف المركزي، وتستطيع وقف قرارات المجلس المركزي وإحالتها إلى وزير المالية (المواد من 41 حتى 46 نقد وتسليف).
3. إذا كانت سياسة سعر الصرف التي اتّبعت في السنوات الأخيرة مسؤولة عن تبخّر الودائع وانزلاق النظام المصرفيّ نحو الكارثة، فيجب التنبيه إلى أن قانون النقد والتسليف جعل الحكومة من خلال وزير المالية شريكاً في قرارات التدخّل في سوق القطع، إذ نصّت المادّة 75 نقد وتسليف على أن المصرف :يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية”. لكن وزير المالية، ومن ورائه الحكومة، تخلّى عن تحمّل المسؤولية ومشاركة المصرف المركزي هذه الصلاحية الخطيرة، خصوصاً في السنوات القليلة التي سبقت الانهيار.
4. نستغرب تراكم الخسائر في مصرف لبنان، وبالتالي المصارف التجارية التي أمدّته بالسيولة كلياً، تقريباً، من دون معرفة الحكومة عبر وزارة المالية. فقد فرض القانون نفسه (مادّة 117) على حاكم مصرف لبنان أن يقدم “لوزير المالية قبل 30 حزيران من كلّ سنة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر عن السنة المنتهية، وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها”. فهل قصّر الحاكم في تقديم هذه البيانات أم أنّ وزير المالية استلمها وأهمل التدقيق فيها، ولم يلاحظ بالتالي التدهور المتمادي سنة بعد سنة في ميزانية البنك المركزي؟
5. القاعدة في الأنظمة المالية في العالم أن المصارف الخاصّة مسؤولة عن الخسائر الناجمة عن قروضها للقطاع الخاص وعن استثماراتها الأخرى، لكن الدولة هي المسؤولة عن خسائر المصرف المركزي. وانسجاماً مع هذه القاعدة، نصّ قانون النقد والتسليف بشكل لا لبس فيه على موجب تسديد أيّ عجز في ميزانية المصرف من أموال الخزينة. فقد ورد في المادّة أنه 113 “إذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً تغطّى الخسارة (في المصرف) من الاحتياط العام، وعند عدم وجود هذا الاحتياط او عدم كفايته تغطّى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة”.
وإذ حذّر الخبراء من تحميل المودعين العبء الأكبر من هذه الخسارة مع كلّ تبعاتها السيّئة على تدفق أموال المدّخرين مستقبلاً نحو المصارف اللبنانية، حتى في حال إصلاح القطاع المصرفيّ، اقترحوا إعادة النظر بخطة التعافي التي أعدّتها الحكومة، علماً بأنها لم تبيّن الأرقام المحدّدة للإجراءات والفرضيات التي تنطوي عليها.
ودعوا للاعتراف بأن الجزء الأكبر من عبء خطة التعافي يجب أن تتحمّله الدولة بما في ذلك السلطة النقدية، وذلك بغضّ النظر عن أي تخطيط لإعادة هيكلة المصارف العاملة في لبنان.
كذلك اقترحوا على السلطات المسؤولة أن “تعدّ جدولاً زمنياً لتسديد التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف، والتي بدورها تضع جدولاً زمنياً موازياً لتسديد ودائع زبائنها بالعملات الأجنبية. ويكون ارتكاز هذا الجدول على صندوق سياديّ يتولّى إدارته خبراء مستقلّون، وتكون من مهامه إدارة بعض موجودات الدولة (لا بيعها) لتساهم عائداته جزئياً في تسديد ديون مصرف لبنان للمصارف التجارية حسب الجدول الزمني المشار إليه. وإننا نرى أن صندوق النقد لن يمانع بأن يكون الصندوق السيادي المقترح من ضمن الخطة المالية التي يعدّها لبنان، شرط أن يتولّى إدارته خبراء ذوو مصداقية ومستقلّون عن المصالح السياسية. وفي هذه الحال فإنّ الموارد المنتظرة من صندوق النقد وغيره من المؤسّسات الدولية، إضافة إلى عائدات الصندوق السيادي، ستعيد ثقة المدّخرين في الجهاز المصرفي اللبناني، وستشكّل كلّها الأرضية المالية المطلوبة لتطبيق الجدول الزمني المقترح لتسديد التزامات مصرف لبنان”.
وتحدّث الخبراء عن “ضرورة التخطيط أيضاً لدعم المواطنين ذوي الدخل المحدود الذين لا قد لا يملكون حسابات مصرفيّة. ويمكن تغذية الصندوق السيادي بنسبة محدّدة من عائدات النفط والغاز إذا بيّنت عمليات التنقيب المنتظرة وجود هذه الثروة في باطن الأرض اللبنانية والمياه الإقليمية”.
وختموا بالإشارة إلى أنّ “ثمّة خطوات إضافية يمكن للدولة أن تقوم بها من أجل حشد الموارد الضرورية للصندوق، ومنها على سبيل المثال فقط فرض ضريبة تصاعدية استثنائية على الفوائد المقبوضة خلال فترة 2017 إلى 2019 عندما أدّت سياسة مصرف لبنان إلى رفع الفوائد على الودائع في لبنان إلى مستويات تفوق كثيراً مستويات الفوائد في الأسواق العالمية”.