في أي عملية بحث عن الخروج من الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تشتد وطأة وتتفجر جوعاً وفقراً وإفلاساً وهجرة وبطالة يعود الحديث عن الدين العام اللبناني وكيفية التعامل معه الى صلب الاهتمامات. فنهج التعامل مع هذا الدين العام ظل مطبقاً في لبنان منذ عام 1992، حيث أتت تسمية الدين في الأصل على أساس استدانة مبالغ مالية بهدف تحويلها إلى طاقة استثمارية تؤمن للمستدين إمكانية الاكتفاء المادي ودفع فائدة الدين، ليصار من ثم إلى رد أصوله عبر فترة زمنية محددة. والجزء الكبير من المشكلة الإقتصادية اللبنانية عائد إلى استخدام المبالغ المقترضة في مجال الإستهلاك عوضاً عن الإنتاج، وفي تحقيق أرباح فردية للأسف.
وبالتأكيد، أن هذا الدين الذي يفترض إعادة هيكلة وفق توصية صندوق النقد الدولي أصبحت قيمته مبعثرة، غير واضحة للرأي العام، ولكن وفق الحسابات العلمية والدولية يفوق بالتأكيد طاقة السلطات السياسية المتعاقبة، التي راكمته بسياساتها الاعتباطية بعيداً عن أي رؤية اقتصادية سليمة.
ومن المعروف إن التعثّر والتخلّف عن التسديد الذي تبنّته حكومة الرئيس حسان دياب “زاد الطينة بلّة” وأدخل البلاد في برنامج الدول المتعثرة، الفاقدة لثقة المجتمع الدولي. وبدل الايفاء بالالتزامات تجاه الدائنين، بحجة تأمين الدعم للقمة العيش والدواء والمحروقات هُدرت الاموال المرصودة لها في معابر التهريب والسرقة وجشع التجار حتى وصلت كلفة هذه السياسة للدولة اللبنانية “الى نحو 6 مليارات دولار أميركي سنوياً، نصفها مخصَّصٌ للمحروقات والكهرباء، والنصف الآخر يذهب لدعم الدواء والقمح والسلة الغذائية”وفق ما اعلنه وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني. وقد أشار إلى أن “هذه التكلفة المرتفعة أدَّت إلى استنزاف احتياطات العملة الأجنبية في مصرف لبنان، التي تقدر حالياً بـ16 مليار دولار”.
اليوم في أيار 2021، وبعد مرور أكثر من عام على التخلّف عن تسديد، ما هو واقع سندات الدين؟
في آذار 2020، ومع قرب استحقاق تسديد دين سندات اليوروبوندز، باع بعض المصارف ما قيمته نحو 500 مليون دولار من السندات إلى أشمور المتخصصة في الأسواق الناشئة التي تحوز حصصا مانعة في بعض السندات الأقصر أجلا، وذلك بعدما علم هؤلاء قرار الحكومة بالتعثّر عن التسديد.
من المعلوم ان المصارف تملك الجزء الأكبر من الدين السيادي. هل المُشكلة اليوم في تكبير محفظة الأجانب من اليوروبوندز سيما وانّ العقود مع الدائنين تفرض الحصول على موافقة 75% من حملة السندات في كلّ شريحة من الشرائح، قبل المُباشرة بإعادة هيكلة للدين. وبالتالي، ستتعقّد عملية تخلّص الدولة اللبنانية من هذا العبء.هل قرار هذه المصارف بالتخلص من هذه الديون كان صائباً سيما وان التبريرات كانت مرتبطة بحاجتها الى السيولة ؟ ما هي القيمة الحقيقية اليوم لهذه السندات؟
هل ان عملية شرائها ما زالت مربحة اليوم؟
هل عملية إعادة هيكلة الدين هي الحل الأنسب كما ُيلمّح إليه صندوق النقد ؟ هل من حلّ آخر؟
مارديني
وفق رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني ان كل من الصناديق الاستثمارية الثلاثة “أشمور” و”بلاك روك” و”فيدلتي انفستمنت” تستحوذ على حصة تزيد عن 30% من السندات السيادية، وهي قادرة على ممارسة حق الفيتو عند التصويت او نقض اي اتفاق تتوّصل اليه الحكومة اللبنانية مستقبلاً مع الدائنين.
ويقول مارديني “للاقتصاد” المصارف اللبنانية باعت هذه الصناديق سندات الدين التي كانت بحوزتها لأسباب معروفة أولها الحصول على السيولة بعدما تم تجفيفها ، وقد يكون السبب الأهم علمها المسبق بتخلّف الدولة اللبنانية عن تسديد ما عليها من هذه الديون.
كما جاء قرار بيع السندات للحؤول دون إخضاعها للإبتزاز من قبل الدولة في اي مفاوضات مستقبلية قد يتم اتخاذ القرار بشأنها.
ومن المعلوم أن أي تفاوض مع صناديق الاستثمار الاجنبية ليس سهلاً، سيما وانها لها السلطة في نقض أي مشروع لا يراعي مصالحها.
أما بالنسبة للقيمة الحقيقية لهذه السندات اليوم فلفت إلى أنه قد يتراوح بين 15 و20 سنتاً للسند بعد حسم نسبة 85%. ولكن لا فائدة من الإقدام على إعادة شرائها لأن هذه الخطوة سترفع من سعرها، والسعر الأدنى المعروض اليوم لن يبقى على حاله عند الشروع بشرائها، لابل سيشهد ارتفاعاً.
واكدّ على اهمية الدخول في مفاوضات مع الدائنين مع الاتفاق على سعر محدد ضمن إطار إعادة هيكلة الدين العام وحتى إعادة جدولة الدين المتبقي اي تقسيطه على سنوات.
ويقول مارديني: بداية الحل تكمن في التفاوض مع الدائنين. ولكن المشكلة اليوم هي أنه لا توجد حكومة فعلية مؤهلة للتفاوض مع الدائنين. كما إن انتشار وباء كورونا في العالم ساهم الى حد كبير في إلغاء التفكير بأي لقاءات ومفاوضات بعدما تصدّرت مواجهة الوباء الأولويات.
اولوية الحكومة المقبلة يجب ان تكون هذه المفاوضات مع الدائنين؛ وفق اي سعر سيتم تسديد الدين. من المهم التوّصل إلى سعر مناسب سيتضمن حتما حسماً. إلا أنه في المقابل،لا يجب أن يغيب عن بالنا ان هذه الجهات لن ترضى باي اتفاق معنا بعيداً عن اي خطة إصلاحية واضحة تضمن تنفيذ تسديد كل قرش من الدين المتبقي بعد الحسم. لذلك، فإن مواكبة الخطة الإصلاحية مع إطلاق اي مفاوضات مع الدائنين هي أكثر من ضرورية.
ويضيف: اليوم المصارف أقرضت مصرف لبنان والدولة. جزء من هذا الدين ضاع “فرق عملة” بعدما ديّن مصرف لبنان الدولة بالليرة وهذا ما أحدث فجوة في حسابات “المركزي “. اما بالنسبة الى الدين بالدولار فإن الدولة أمام استحقاق هام مرتبط بقدرتها على تسديد هذه الديون سواء للمصارف في الداخل أو للدائنين في الخارج.
وكلما استطاعت الإيفاء بالتزاماتها من الديون انعكس ذلك ايجاباً على قدرة المصارف على إعطاء المودعين أموالهم.
وإذا أعلنت الدولة اليوم أنها ستتخلف عن تسديد أي دين فهذا يعني أن المودعين لن يحصلوا على أي قرش من أموالهم في المصارف. اما اذا تم السير بإعادة هيكلة الدين مع التوّصل الى تحديد امكانيات الدولة على الإيفاء برد ديونها، عندها يتم تحديد الخسائر، وايضاً حجم ما تستطيع المصارف رده من ودائع الى اصحابها. كما يمكن للبنان حينها العودة الى أسواق الدين بعد التوّصل الى اتفاق مع الدائنين.
الثقة
كان في خطة الحكومة محور يتعلق بموضوع إعادة هيكلة النظام المالي في لبنان خصوصاً القطاع المصرفي، لكن هذه الخطة أوقفت في لبنان لأسباب متعددة. كما أن اي معالجة للمشكلة تتم أولاً بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي ضمن برنامج معين يعطي الثقة، لأن قضية الدولار والنقد والمصارف تتعلق بالثقة، وصندوق النقد يعطي هذه الثقة. هذا يعني انه يجب انتظار اولاً، ولادة حكومة ثقة، وثانياً برنامج تقدمه ويوافق عليه صندوق النقد الذي سيضمن إعادة الثقة للمودعين في المصارف، والتي بدورها سيكون دربها لاستعادة هذه الثقة ليس سهلاً. ولكن أين المصارف من أي عملية إعادة هيكلة الدين العام اليوم؟ يبقى المهم وهي الخطوة الأولى.