كـ”صحوة الموت” طُرِحَ ترشيد الدعم في مطلع كانون الاول الماضي بعد نحو سنة على إعتماده. مع العلم أنه ليس بدعم حقيقي للتخفيف عن كاهل المواطن بل هو تغطية فرق سعر العملة من قبل مصرف لبنان من الودائع أو أرباح المصرف الموجودة في الإحتياطات لدعم شراء بعض السلع أي توفير الدولار بسعر 1500 ليرة لبنانية للحفاظ على أسعارها الأساسية وتأمين إمكانية إستيرادها.
لكن يبدو أن كلام ليل كانون الأول عن ترشيد الدعم يمحوه نهار كانون الثاني، حيث تبخرت الحماسة والإندفاعة السريعة ولم تتخذ أي خطوات عملية وجدية حتى الساعة. لا، بل يظهر أن الدعم “الهمجي” وبيع المواطنين من كيسهم مستمر الى آخر نفس مالي جراء التهرّب من تحمّل المسوؤليات والعقم في إتخاذ القرارات لدى الطبقة الحاكمة وتقاذف كرة النار بين الحكومة المستقيلة ومجلس النواب خوفاً من التداعيات غير الشعبية.
فبعدما أبلغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المعنيين أنه لم يعد في إستطاعته تأمين هذا الدعم الذي يكلّف 5 مليارات دولار سنوياً أي ما قيمته 400 مليون دولار شهرياً أكثر من شهرين لأنه يكاد يلامس الإحتياطي الإلزامي للمصارف الموجودة في البنك المركزي والتي تقدر بـ 17.5 مليار دولار ويجب ان تشكل 15 % من الودائع – فهو يدعم بنسبة 85% أي يؤمن العملة الاجنبية بنسبة 85% على القطاعات الأساسية: الدواء، المحروقات والطحين بسعر 1500 ليرة للدولار – بدأت تلوح في الشارع بوادر نسخة ثانية عن حراك 17 تشرين الذي كان فتيله الـwhatsapp ، فتيلها هذه المرة كان صفيحة البنزين مع كثرة الحديث عن رفع الدعم عنها.
سارع مجلس النواب الى عقد جلسة للجان النيابية المشتركة في ساحة النجمة في 2 كانون الاول 2020 لبحث ملف الدعم والمس بالاحتياطي الالزامي حيث وجد النواب نفسهم بين مطرقة الرفع أو الترشيد الدعم وسندان المس بالاحتياطي. فرموا كرة النار بوجه حكومة تصريف الاعمال حيث أوصوا بـ”تقديم الحكومة لمقترحات عملية مرفقة بمعطيات واضحة حول الدعم والاحتياطي لمناقشته في الجلسة المقبلة”.
فيما شهد السراي الحكومي يوماً ماراتونياً في 8 كانون الاول 2020 حيث ترأس الرئيس حسان دياب مساء إجتماعاً حضره الوزراء زينة عكر، غازي وزني، راوول نعمة، عماد حب الله، رمزي المشرفية، ريمون غجر، حمد حسن وعباس مرتضى وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. إستمع المجتمعون خلاله إلى ملخص مناقشات ورش العمل مع القطاعات المعنية التي إستضافها السراي بإشراف دياب، ومدى توافقها مع الخطط الوزارية ورؤية المجتمعين لكيفية تنظيم كلفة الاستيراد والدعم. فتقرر “وضع صيغة متكاملة وتفصيلية لهذه الرؤية خلال مدة أسبوع” وفق بيان السراي.
شهر مضى ولم تتبلور هذه الصيغة تمهيداً لعرضها على اللجان النيابية المشتركة ولم يبادر مجلس النواب الى عقد جلسة في هذا الخصوص!!! فدياب لا يريد ان تتحمل حكومته اي تبعات لقرارات غير شعبية. مع العلم أن ترشيد الدعم كان يفترض أن يحصل أقله منذ بداية العام 2020 وفي ظل حكومة فاعلة تتحمل مسؤولية هذا القرار لا حكومة تصريف أعمال.
المفارقة أن سلامة عاد وأعلن بسحر ساحر عبر “الحرة” في 22 كانون الاول 2020 أنه لا يزال لدينا اكثر من 2 مليار دولار لاستخدامها في الدعم من دون أن يوضح من أين أتت؟!! هل من تغيير في المعادلة ادى الى الفائض أم لا صحة لها وسينقطع الدعم بعد أشهر؟!! كالعادة، توالد المشاكل في لبنان وكثرتها يجعل أموراً مهمة كـترشيد الدعم تغرق في مستنقعات المماطلة من دون محاسبة شعبية فورية وجديّة وحاسمة.
وفيما إكتفى وزير الاقتصاد راوول نعمة بالكشف لـ”أحوال” أنه تم إرسال مقترحات الى مجلس النواب إلا أن ذلك لا يمنع من مواصلة بحث أي إقتراحات جديدة قد تصلهم كلجنة وزارية، أكد وزير الزراعة والثقافة عباس مرتضى لـ “أحوال” أن “لا علم لديه بأنه تم إرسال أي شيء لمجلس النواب وإن تم ذلك من دون علم ومناقشة أعضاء اللجنة الوزارية فالأمر خطيئة”، مشيراً الى أنه “حكي عن وجود خطة وسيناريوهات عدة للترشيد ولكنهم كاعضاء اللجنة الوزارية لم تتم دعوتهم بعد الى أي إجتماع لبحثها”.
مرتضى الذي شدد على أهمية الوضوح في عمل اللجنة، إعتبر أن ترشيد الدعم وتنظيمه حاجة ملحة لأن الطبقات الفقيرة لم تعد تحتمل وتوقّف عند مشكلتين: مدى إمكانية إستمرار الدعم وآليات تأمينه. كما توقف عند ما يعني وزارة الزراعة قائلاً: “رفع الدعم عن الأدوية والبذور والأسمدة يؤدي الى ضرب الغذاء. دعم هذا القطاع بـ100 مليون دولار سنوياً لا يذكر أمام مليار ومئتي مليون دولار للدواء و3 مليارات للمحروقات. فالقطاع الزراعي يصدر بـ400 مليون دولار ويؤمن 35 % من الأمن الغذائي. ما يعنيني ألا يكون القطاع الزراعي والامن الغذائي مهددين للعام 2021. أياً يكن السيناريو المعتمد للدعم، همي أن يصل للفقير والمحتاج وأن يحرر المواطن من الكارتيلات”.
من جهته، يشير رئيس “المعهد اللبناني لدراسات السوق” الدكتور باتريك مارديني الى ان الرئيس دياب يتمسّك بأن حكومته مستقيلة ولا يمكن ان يطلب منها شيء، مضيفاً: “رفع الدعم أو ترشيده تسويدة وجه لا يريد دياب أن يتحملها، لذا لن يتخذ القرار ويسعى لرمي الكرة بملعب مجلس النواب”.
أما عن المقاربات المطروحة لكيفية ترشيد الدعم، فيعددها مارديني قائلاً:
“1- تخفيف عدد المواد المدعومة ونسبة الدعم عليها وهذا تخفيض للدعم لا ترشيداً له.
2- خلق موقع إلكتروني يكون متاحاً التسجيل فيه أمام كل لبناني للحصول على مبلغ شهري. يكون هذا المشروع بالتعاون مع البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي، وفرضاً تسجل 80% من اللبنانيين تخفض كلفة الدعم الى 150 مليون دولار شهرياً عوض 400 مليوناً.
3- دعم مباشر للعائلات الاكثر فقراً عوض الدعم العشوائي حيث على سبيل المثال يستفيد من دعم البنزين حتى من يمتلك سيارة غالية الثمن. وقد أشارت دراسة للبنك الدولي الى أن 80% من الفقراء لا يمتلكون سيارات للاستفادة من هذا الدعم”.
يختم مارديني بالدعوة الى وقف فوري لسياسة الدعم الحالية لأنها تتم من أموال المودعين بلا حسيب أو رقيب ولم يتبق منها سوى 17 مليار دولار، مضيفاً: “لا يوجد طرف يمتلك شجاعة طرح ذلك بل الجميع يعمل بشعبوية. أنا ضد أن يكون الدعم من مصرف لبنان، إذ يجب ان يأتي من موازنة الحكومة لنعرف مصدره”.
هناك ضغط على مصرف لبنان للإستمرار بالدعم أيا يكن المصدر والنتائج، ما يهدد المساس بالاحتياطي الإلزامي للمصارف وربما تالياً بالذهب ويوفر حينها نحو 35 ملياراً ويمدد الوضع القائم نحو خمس سنوات، ولكن بعدها نكون فقدنا أوراقنا الى الأبد. لا يملك مصرف لبنان الجرأة لوقف الدعم ولا الحكومة لإتخاذ قرار أقله بالترشيد فيما مجلس النواب يتلطى خلفها.
إلغاء الدعم مشكلة وكذلك الإستمرار في الصرف من أموال المودعين التي لا يحقّ للدولة أخلاقياً وقانونياً المسّ بها. إن كان الترشيد لا يعني وقف إستنزاف الإحتياطي لكنه يخفف من وتيرته.
للأسف تواصل السلطة في لبنان الهروب الى الأمام – ولو على حساب الشعب الذي لم تكتف بجعل أمواله رهينة في المصارف – أموال الدعم ستنفد حتماً والمشكلة في الأساس أن تأمينها يتمّ من أموال الناس في الاحتياطي… وغداً لناظره قريب.