هل تسمح السياسة بإنشاء مجلس للنقد لضبط سعر الصرف واستعادة الثقة بالنظام المالي اللبناني؟

هل تسمح السياسة بإنشاء مجلس للنقد لضبط سعر الصرف واستعادة الثقة بالنظام المالي اللبناني؟

في خضم هذه الزوبعة الخبيثة من الأزمات الاقتصادية التي يتخبط بها لبنان، تضيق أبواب المخارج أحيانا كثيرة، خصوصا حين يتعلق البعض منها بعوامل سياسية. إلا أنه في رحلة التقصّي عن الحلول المتاحة للمشاكل المالية تبرز وسائل مجدية اعتمدتها دول عاشت التجربة ونجحت في التفلّت منها.

اليوم، ارتفاع سعر ​الدولار​ يطبع مرحلة الانهيار الاقتصادي في لبنان، ويشرّع أبواب ​المجاعة​ التي تهدد الآلاف من الأسر اللبنانية. ​الاقتصاد اللبناني​ مدولر بشكل صريح وقد يكون وراء فشل السيطرة على سعر هذه العملة الصعبة أسباباً عدة منها سياسية، وأخرى غير سياسية ولو بنسبة أقل؛ إلا أن اللجوء إلى محاولات دول انتصرت قبل لبنان على تقلّبات عملتها يستحق التوقّف عنده، سيما وأن البروفسور ستيف هـ. هانكي، المرجع الأول في العالم لمعالجة مشكلات ​العملات​ المضطربة و​التضخم​ المفرط يوصي بإنشاء مجلس للنقد

لقد تم إنشاء مجلس للنقد وطُبّقت أنظمته في دول عانت من تدهور عملتها ونجحت في تخطّي أزماتها المالية. فكيف يتم إنشاء هذا المجلس؟ وما الإجراءات المتّبعة؟ ومن يديره؟

هل أن النتائج المرجوة منه في ضبط سعر الصرف واستعادة الثقة بالنظام المالي مضمونة؟ الفترة المحددة للحصول على هذه النتائج (أسبوع ، أو شهر ، أو أكثر…)؟

ما هو دور “المركزي” و​المصارف​ في هذا المجال؟

من هي البلدان التي أنقذها هذا المجلس؟

وفق رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، بإمكان تعديل قانون النقد والتسليف ليصبح عمل المصرف المركزي وفقاً لقواعد مجلس النقد.

ويشرح مارديني “للاقتصاد”، أنه للمركزي حرية تحديد ​السياسة النقدية​ في البلد. ويتم الاعتماد على حكمته في ذلك، وهذا ما يعرف بـ “Discretionary policy” أو السياسة الاستنسابية. فإذا ارتأى حاكم ​مصرف لبنان​ وجوب تخفيض الفائدة على العملة يعمل عليه، وإذا كان من ضرورة لرفعها يلجأ إلى السير في هذا الاتجاه. من هنا، فهو يملك حق تنفيذ الهندسات المالية، ضخ الدولار وسائر العملات، وذلك وفق استنسابية ما يراه مناسباً. إلا أن الأمر مختلف في مجلس النقد، حيث لا يعود هناك من استنسابية في عمل المركزي إذ يحدد ​سعر الفائدة​ وكمية الأموال المتداولة في السوق عن طريق العرض والطلب حصراً.

وفي ما يتعلق بالإجراءات الواجب اتباعها، فيكفي تعديل قانون مصرف لبنان، بحيث يتحوّل حاكم المصرف إلى مدير مجلس النقد. وفي مطلق الاحوال، لا أهمية كبرى لمن يكون مدير المجلس سواء كان حاكم المركزي الحالي أو غيره، لأن عمله أوتوماتيكي، وليس هناك من صلاحيات استنسابية، طالما أنه مقيّد بشروط عمل هذا المجلس. وطريقة عمل المجلس سهلة اذ انه يسمح للأفراد بتحويل عملاتهم بواسطته من الدولار إلى الليرة، وكذلك للشركات اللبنانية المستوردة التي بإمكانها تحويل الأموال بواسطته، وهذا ينطبق ايضا على المغتربين اللبنانيين الذين يحوّلون أموالهم إلى لبنان من الدولار إلى الليرة.

أما ما يتم جمعه من ال​دولارات​ مقابل الليرة، فلا يمكن استعماله في لبنان لشراء سندات دين أو سد عجز ما، وإنما جل ما يمكنه التصرّف به هو شراء سندات خزينة أميركية لتحقيق جزء بسيط من الربح. وبمعنى آخر ، تبقى الدولارات “كاش” في صندوق المجلس، وهذا ما نسمّيه احتياطي 100 %.

في كل لحظة يتوافر في الصندوق دولارات بقدر ما يتوافر ليرات لبنانية في السوق، وذلك على أساس سعر الصرف الثابت. لذا فإن سعر صرف الليرة يبقى ثابتاً. وبالتالي، يكون عندنا دولارات كافية لتغطية ​الكتلة النقدية​.

هذا النظام اسمه سعر صرف ثابت، ويختلف عن سعر الصرف المثبّت الذي كان ينتهجه مصرف لبنان قبل الأزمة في 2019، عن طريق سياسة نقدية معيّنة وهندسات مالية. إذا، سعر الصرف ثابت حكما. هذا هو الفارق، أي أنه يضمن سعر صرف ثابت والأهم من ذلك يضبط الأسعار. من المعلوم أن زيادة الأسعار توازي عادة تدهور سعر صرف الليرة، وهنا دور مجلس النقد بضبط الأسعار عبر ضبط سعر صرف الليرة. وفي حال حصل شيء من التضخّم، فإن ذلك لن يتعدى نسبة 2 أو حتى 3 % في العام بما يوازي التضخم عملة الاحتياط في بلد، وليس 100 % في الشهر كما يحصل اليوم.

هل أن النتائج المرجوة منه في ضبط سعر الصرف واستعادة الثقة بالنظام المالي مضمونة؟ وما هي الفترة المحددة للحصول على هذه النتائج؟

وفق مارديني الأهمية في هذا المجلس تبقى في استعادة الثقة بالنظام المالي والنقدي. أي إن المواطنين يصبحون عندهم ثقة بالليرة اللبنانية. وهذه العملة الوطنية لن تتدهوّر بعدها. وهذا ينسحب بالثقة على كل من النظام المالي والمصرفي. ستبقى المصارف بحاجة الى إصلاحات، إلا أن هذا ليس من مهام مجلس النقد. كما أنه ليس له من علاقة بخسائر المصارف المترتبة عن ديونها لدى الدولة.

كما أن معالجة النفقات العامة المرتفعة و​الدين العام​ ستبقى من مسؤولية الدولة لا مجلس النقد. فجلّ ما يستطيع القيام به مجلس النقد هو وقف تدّهور سعر صرف الليرة بعد شهر على الأكثر من انشائه، وأيضا وضع حد لحالة ​الفقر​ التي انتشرت في لبنان بفعل تراجع قيمة الليرة وانحدار القوة الشرائية.

أما مشاكل ​الفساد​ والهدر والمصاريف المرتفعة في الدولة فهي ليست من اختصاص هذا المجلس لحلّها.

إلا أنه في غضون ذلك، ستنعكس تدابير مجلس النقد على المصارف لأنه مع استعادة الثقة بالليرة اللبنانية يتراجع تهافت المودعين إلى المصارف لسحب الأموال وتحويلها إلى الدولار؛ بمعنى آخر، يخفف المجلس الضغط على ​القطاع المصرفي​. كما يحفّز الحكومة على ترشيد نفقاتها.

أما في ما يتعلق بالبلدان التي أنقذها مجلس النقد فهي كثيرة بينها ​بلغاريا​، حيث ساهم منذ إنشائه في معالجة أزمة تدهور سعر صرف العملة، ممهداً الطريق أمام تحقيق ​النمو الاقتصادي​. وكذلك دول ​أوروبا​ الشرقية مثل إستونيا، دول الاتحاد السوفياتي في الفترة الانتقالية وقد ساعدها المجلس على تحقيق النمو. أما ​الارجنتين​ فبعد ما ساعدها المجلس على التعافي تم إلغاءه لأسباب سياسية فانهارت معه عملة البلد مجددا.

باختصار، تستحق تجارب هذه الدول الوقوف عندها، سيما وأنها وجدت المخارج الصحيحة لأوضاعها المزرية. من هنا، إذا كان نظام مجلس النقد يسمح بتثبيت سعر صرف الليرة والتخلي عن القيود على السحوبات وحركة رأس المال (Capital Control) ووقف التضخم وغلاء الأسعار الذي يعيشه لبنان اليوم، وهو قد يكون الأصعب فلماذا لا يتم اعتماده؟ هل هو عائق أمام التسلّط السياسي؟

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع الإقتصاد