ما ان قدَّم وزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة اقتراحا الى كل من وزراء المال والطاقة والصناعة والزراعة لتعديل آلية دعم مادتي البنزين والمازوت والخبز، واستبداله بقسائم توزّع على الذين يحتاجون اليها فعلا، حتى انهالت عليه الانتقادات اللاذعة من حلفائه قبل خصومه، ولعل أول هذه الانتقادات كان من عضو المكتب السياسي في “حزب الله” غالب أبو زينب الذي اتهم الوزير بـ “الهرطقة وتحميل المواطنين الثمن وعدم إدراكه وجع الفقراء ومعاناتهم واتخاذ قرارات تخدم تجار الهيكل لا المجتمع”. وكذلك تسربت انتقادات من مصادر مجهولة تتهم الوزير نعمة بإدارة الدولة “مثل المصرف من دون النظر إلى التداعيات”، فيما سارع وزير الطاقة والمياه ريمون غجر الى نفي توجه الحكومة لإلغاء الدعم، مؤكدا الاستمرار في استيراد المازوت المدعوم. ولكن بعيدا من هذه الانتقادات، هل من منافع لهذه الآلية، وكيف ستفيد الخزينة؟
تصل كلفة الفاتورة النفطية في لبنان الى نحو 6.3 مليارات دولار وفقا لأرقام عام 2019، وتتوزع كالآتي: 1.330 مليار بنزين، 3.2 مليارات مازوت، 1.7 مليار فيول، 138 مليونا غاز، 21 مليونا كاز الطيران. وفي حين يقدر حجم استهلاك البنزين بـ 125 مليون صفيحة سنويا، يستنتج الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين أن “الدولة تخسر نتيجة فارق السعر نحو 660 مليار ليرة سنويا”.
يؤيد شمس الدين اقتراح الوزير نعمة حصر دعم المحروقات باللبنانيين الذين هم في حاجة اليه، خصوصا أن سياسة الدعم القائمة حاليا يفيد منها الغني والفقير على السواء. “فمن يملك سيارة صغيرة تستهلك صفيحة أو صفيحتين في الاسبوع تدعمه الدولة بعشرة آلاف، ومن يستهلك سيارة كبيرة تستهلك 10 صفائح اسبوعيا تدعمه الدولة أيضا بـ50 ألف ليرة، وتاليا فإن سياسة الدعم هذه غير مجدية”. لذا يقترح شمس الدين “ايداع دائرة الميكانيك قسائم بالبنزين المدعوم، بحيث يصبح في امكان كل صاحب سيارة عمومية أو خاصة يدفع رسوم الميكانيك الحصول على قسيمة. مثلا يحصل سائق السيارة العمومية على قسائم بـ 400 صفيحة سنويا، أما صاحب السيارة الخصوصية فيحصل على 100 صفيحة سنويا. وعلى هذا النحو تبقى تعرفة سيارات الاجرة على حالها ويستطيع اصحاب السيارات الصغيرة وذوو الدخل المحدود التنقل.
أما من يستهلك أكثر من هذه الحصة، فعليه أن يؤدي ثمن ما يستهلكه خارج الدعم. وبهذه الطريقة يدفع الجميع رسوم الميكانيك. ويشرح شمس الدين آلية تنفيذ إقتراحه كالآتي: عند تسديد رسم الميكانيك يحصل صاحب السيارة على القسائم المدعومة المختومة برقم سيارته، ومن ثم يسددها للمحطات التي تقدمها بدورها الى وزارة المال كل 15 يوما للحصول على فارق الدعم.
يستغرب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني الحملة التي شُنت على وزير الاقتصاد “لأن آلية الدعم الراهنة تظلم الفقير ولا تحميه ولا تساعده على تأمين حاجته، بدليل أنها أدت الى فقدان المازوت من السوق اللبنانية، وإلى إطفاء المولدات وشجعت على التهريب عبر الحدود وتجارة السوق السوداء. هكذا تحولت آلية الدعم الراهنة إلى مزراب هدر تنقل العملة الصعبة إلى جيوب المهربين وتجار السوق السوداء بدلا من مساعدة الفقير. تخسر الحكومة اللبنانية اليوم نحو 7 دولارات عن كل صفيحة مازوت مستوردة، وتدفع هذه الخسارة مما تبقى من أموال المودعين التي يحتفظ بها مصرف لبنان. من هنا، فكلما زاد استيراد لبنان للمازوت الذي يفوق حاجاته الطبيعية، ازداد عجز ميزانه التجاري وخسر مزيداً من الدولارات وتدهور سعر الصرف. وسيؤدي نزف الدولارات الى قص شعر (Haircut) اقسى على المودعين وستتوسع رقعته لتشمل غير الميسورين”.
ووفق مارديني فإن “سياسة دعم السلع يرفضها صندوق النقد الدولي بالمطلق وفي جميع بلاد العالم، لأنها فاشلة ولا تساعد الفقير، بل تحرمه السلع والخدمات الأساسية، تماما كما يحصل اليوم مع انقطاع المحروقات في لبنان. فلماذا يبيع أي عاقل صفيحة المازوت بـ 11000 ليرة لمن يحتاجها بينما يمكنه بيعها في السوق السوداء بـ17 الف ليرة أو تهريبها وبيعها في سوريا مقابل 22 ألف ليرة؟! من هنا يضطر من يحتاج إلى المازوت في لبنان إلى شرائه بالسعر المرتفع في السوق السوداء، هذا إذا وُجِد فيها أصلا. وتُشعِر سياسة دعم المحروقات الحكومة بأنها تساعد الفقير، ولكنها في الحقيقة تفرط في أموال شعبها ومودعيها وتخدم مافيات المازوت على حساب الفقراء، ولن يرضى صندوق النقد الدولي بأن تُهدَر أمواله بهذه الطريقة، ولكنه في المقابل مستعد لتقديم الأموال لدعم الناس مباشرة ومساعدتهم على شراء المحروقات عن طريق نظام القسائم”. فعن أي “قسائم” يتحدث مارديني؟
نظام بونات مخصصات البنزين الذي يوزع على الضباط والرتباء يشكل مثالا يحتذى به ويمكن تعميمه على الشعب اللبناني برمته لمادتي البنزين والمازوت، وفق مارديني الذي يشرح أن “كل سيارة مسجلة في لبنان تحصل على بونات بنزين في حين يحصل على بونات مازوت كل معمل أو مزارع أو وسيلة نقل وشحن… ويمكن هنا استثناء الميسورين من أصحاب السيارات الفخمة جدا أو أولئك الذين يمتلكون أكثر من سيارة أو سيارتين. وتسمح هذه الآلية بحصر الدعم في لبنان في من يحتاجه فعلا. كما تؤدي إلى التخفيف من سرعة ذوبان دولارات المودعين، بما قد يساعد على تبطيء وتيرة تدهور سعر صرف الليرة التي تتفاقم مع انحدار احتياط المركزي”.
أعلنت القوى السياسية اللبنانية دونما استثناء استنكارها لتهريب المحروقات من لبنان ورغبتها في إيقافه، وإن اختلفت حول الآلية. كما لجأ بعض المحتجين إلى قطع الطريق على الصهاريج، بينما وصل بعض الساسة إلى حد المطالبة بحراسة دولية للحدود. ولكن الآلية التي يقترحها وزير الاقتصاد تقلب الطاولة وتسمح بوقف التهريب عن طريق جعل المحروقات في لبنان أغلى منها في سوريا بالتوازي مع السماح للشعب اللبناني بشرائها بسعر مخفوض. فهل تتعالى قوى المعارضة المتشددة في موضوع وقف التهريب وضبط الحدود عن حساباتها السياسية، وتدعم توجه الوزير قبل حلفائه؟
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع جريدة النهار