بدأت أولى إشارات الفوضى والفتنة تطل برأسها في لبنان الغارق بأزمة ثلاثية: اقتصادية مالية ونقدية.
فعمليات الشغب التي شهدتها العاصمة بيروت وطرابلس، أكبر مدن الشمال، دليل على انفجار اجتماعي لن يطول إذا ما استمر التراجع السريع لسعر صرف الليرة اللبنانية ومعها استنزاف القدرة الشرائية للمواطن اللبناني. ما استدعى تدخلاً حكومياً لمحاولة لجم الانهيار وتداعياته.
الحكومة راهنت على ما تبقى من احتياطي مصرف لبنان وعلى القوى الأمنية والصرافين، فيما بقيت الأسباب الرئيسية لتراجع سعر الصرف من دون معالجة. والسبب الأول هو انعدام الثقة، ثم عدم تطبيق أي إصلاح يعطي إشارة ايجابية واحدة إلى الخارج، ثم تفلّت الحدود وتهريب الدولار كما السلع المدعومة إلى سوريا على بعد ساعات من بدء تطبيق “قانون قيصر” لحماية الذي يضيّق الخناق مالياً على النظام السوري.
ثلاثي الحكومة
ثلاثي شكل أسس خطة الحكومة لمحاربة تراجع سعر الصرف: الأمن والمال والترشيد.
في الأمن: استنفرت الحكومة المديريات الأمنية كلها، المخابرات والأمن الداخلي والأمن العام، لمكافحة المضاربين المتلاعبين بسعر الصرف والصرافين غير الشرعيين. فاستحدثت لهذه الغاية غرفة طوارئ مركزية في مبنى قوى الأمن الداخلي المركزي لتلقي الشكاوى من مختلف الإدارات وإعطاء الأوامر بالتحرك الفوري لتوقيف كل من يثبت قيامه بأعمال غير شرعية تهدد النقد الوطني.
في المال: ما بين 3.5 و 5 ملايين دولار هي القيمة التي سيضخّها مصرف لبنان يومياً في الأسواق عبر الصرافين المرخصين من الفئة “أ” بموجب اتفاق مع الحكومة بمحاولة للتصدي لشح الدولار ورفع العرض أمام الطلب الكبير الذي دفع بسعر صرف الليرة إلى التراجع بسرعة ولمستويات قياسية. إجراء يهدد ما تبقى من احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية الذي يسجل مستويات أقل من 20 مليار دولار.
في الترشيد: التزم الصرافون من الفئة “أ” بالاتفاق مع مصرف لبنان الذي يحدد سقوف عمليات بيع الدولار في السوق وبالتسعيرة اليومية الصادرة عن نقابة الصرافين التي حددت سعر الصرف دون 4000 ليرة للدولار الواحد.
للأفراد أُتيح 200 دولار أسبوعياً كحد أقصى إذا لم تتوافر مستندات تبرر الحاجة الملحة إلى العملة الأجنبية.
للتحاويل إلى الطلاب الذين يدرسون في الخارج حُدد سقف عند 2500 دولار شهرياً.
وأعطي تجار المواد الغذائية والطبية الأولوية مع سقوف أعلى بحسب الوثائق التي سيدرسها المصرف المركزي قبل الموافقة عليها.
الصرافون ملتزمون ولكن
يؤكد عضو هيئة نقابة الصرافين محمود مراد لـ”اندبندنت عربية”، أنه على الرغم من الطلب الكبير على الدولار في السوق، تمت تلبية فئة واسعة من الأفراد والتجار بحسب السعر الرسمي والسقوف المحددة.
فالصرافون ملتزمون بالتعاميم ويعملون ضمن الأطر التي تم الاتفاق عليها مع الحكومة. ويعتبر مراد أنه لنجاح الخطة يجب أن تكون قبضة القوى الأمنية مشددة على المضاربين والمتلاعبين الذين ما زالوا يتحكمون في سوق سوداء موازية بالدولار بأسعار مرتفعة جداً.
على الرغم من الإجراءات الحكومية والتشدد في الأيام الأولى لتطبيق الخطة، فإن السوق السوادء ما زالت قائمة وبأسعار للصرف أعلى من المستوى الذي حددته نقابة الصرافين.
فدولار السوق السوداء يتحرك عند 4700 ليرة إذا وجد، فيما دولار نقابة الصرافين عند 3900 ليرة.
فارق كبير يدل على أن محاولات الحكومة للسيطرة على سعر الصرف ما زالت غير ناجحة.
خياران
وفي هذا الإطار، يتوقّع رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني ألا تنجح آلية مصرف لبنان، لأن المصرف المركزي لا يملك ما يكفي من العملة الصعبة لتلبية الطلب الكبير. ما يعني أن السوق السوداء باقية وناشطة، وسعر صرف الدولار سيسجل مزيداً من الارتفاع.
ويرد مارديني تراجع قيمة العملة اللبنانية إلى استمرار مصرف لبنان بضخ الليرة بوتيرة أكبر من تدفقات الدولار إلى لبنان. وهنا تكمن المعضلة النقدية.
ويعتبر مارديني أن لوقف نزيف الليرة خيارين:
إما إدخال أموال بالعملات الأجنبية من الخارج.
أو وقف ضخ الليرة في الأسواق.
في الخيار الأول، تعمل الحكومة مع صندوق النقد الدولي وتقوم بمفاوضات شاقة قد تطول. ما يهدد بمزيد من استنزاف قيمة العملة المحلية.
وفي الخيار الثاني، على الدولة اللبنانية الحد بشكل كبير من نفقاتها. وهنا لا أفق أيضاً. فلا إصلاحات ولا خفض لحجم القطاع العام، بل تتجه الحكومة إلى المزيد من الاستدانة من المصرف المركزي مع تراجع إيرادات الدولة بشكل كبير في ظل توقف الاقتصاد وتأثيرات الإغلاق الذي رافق تفشي فيروس كورونا.
ويلفت مارديني إلى واقع المصارف التي بدأت بتحويل ودائع الدولار عند السحب إلى الليرة بأسعار تقارب سعر الصرافين وليس عند السعر الرسمي الذي ما زال مستقراً عند 1507 ليرات للدولار. ما انعكس فائضاً في النقد الوطني سيترجم ضغوطاً على سعر الليرة.
ويصف مارديني إجراءات الحكومة كمن يرمي الرماد في العيون. ويصف الإجراءات الأمنية المشددة بالقمعية. فالدولة اللبنانية وبدلاً من معالجة أزماتها تلجأ إلى سجن 6 ملايين مواطن يسعون لصرف بعض مدخراتهم أو ما يملكون من العملة الصعبة.
حل الحكومة السجن واقتطاع أموال المودعين من دون القيام بأي إصلاحات فعلية. ما سينعكس مزيداً من الارتفاع في سعر صرف الدولار. فقمع الناس يزيد من شح الدولار والنهج الصحيح يمر حكماً بالإصلاح.
“قانون قيصر” في سوريا يضرب النقد في لبنان
لن يمر بدء تنفيذ “قانون قيصر” من دون تداعيات على الاقتصاد والنقد اللبنانيين، ولتطبيقه تأثير مباشر على مناخ الأعمال في لبنان، خصوصاً الأعمال المصرفية والتجارية.
قانون قيصر لحماية المدنيين يفرض عقوبات على كل من يتعامل مالياً مع الحكومة السورية والأحزاب والفصائل الداعمة لها.
مصرفياً، التأثير سلبي، فأولاً المصارف اللبنانية قد تخرج نهائياً من السوق السورية، وقد يزيد تطبيق القانون من فقدان الثقة في القطاع المصرفي اللبناني المتداعي.
أما تجارياً، فلبنان يصدر معظم إنتاجه، الزراعي خصوصاً، عبر سوريا. وإذا ما اعتبرت الرسوم التي تدفعها الشاحنات عند مرورها عبر سوريا دعماً لنظام بشار الأسد فقد تتلقى القطاعات الإنتاجية في لبنان ضربة كبيرة.
ويتخوف مارديني من تفاقم التهريب عبر الحدود غير الشرعية مع تضييق الخناق على التعاملات التجارية بين سوريا والعالم. ما سينعكس مزيداً من الاستنزاف للاحتياطي بالعملات النقدية لمصرف لبنان، بالتالي، ضغوطاً على سعر الصرف.
فالاقتصادان اللبناني والسوري مترابطان. واليوم نلاحظ ترابط العملتين بخسارتهما قيمتهما بالسرعة وبنسب متقاربة.
والاقتصاد السوري أصبح يعتمد على الاقتصاد اللبناني. وقريباً سيعتمد الاقتصاد اللبناني على السوري لتأمين حاجات السوق من السلع السورية غير المرتفعة التكلفة، مع تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني. تداخل يشكل معضلة للبنان وضغوطاً على سوريا ستترجم ضغوطاً على لبنان.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع Independent Arabia