لبنان وصندوق النّقد الدّوليّ.. مكانك راوح

لبنان وصندوق النّقد الدّوليّ.. مكانك راوح

بحسب مصادر رسميّة مسؤولة معنيّة بملف توحيد الحسابات والأرقام بين وزارة المال وبين المصارف، فهو “كذبة” أطلقتها المصارف بما فيها مصرف لبنان لإخفاء خسائرها، بينما الأرقام الحقيقيّة هي الّتي أعلنتها وزارة الماليّة، وأقرّ بها النّاطق باسم صندوق النّقد الدّوليّ قبل أيّام، حيث قال: “إنّ انطلاقة الحكومة صحيحة في خطّة الحكومة الإصلاحيّة وفي الأرقام الّتي توزّعها”.

وأضافت المصادر أنّ “ما يجري حفلة كذب سياسيّة تقوم بها المصارف، ويُسوّق لها بعض النوّاب والسّياسيّين لأغراض خاصّة، وأنّ المشكلة في الحسابات هي لدى المصارف وليس لدى الحكومة أو وزارة الماليّة، ويجب أن تعترف المصارف بمسؤوليّتها عن هذه المشكلة ليسهل حلّها، فما يجري توزيعه من معلومات مغلوطة تارة عن اختلاف في الأرقام، وطورًا عن شروط من صندوق النّقد، وآخرها شروط اليابان لتسليمها مدير شركة “نيسان” كارلوس غصن مقابل الموافقة على دعم لبنان، هو جريمة بحقّ البلد، فلا صندوق النّقد أبلغنا أيّ شروط، ولا اليابان طرحت شروطًا”.

شروط صندوق النّقد وخيارات لبنان

وحول هذا الموضوع تحدث رئيس المعهد اللبناني لدراسات السّوق الدكتور باتريك مارديني لوكالتنا، وقال: “إنّ شروط صندوق النّقد الدّوليّ تتمثّل بأربع نقاط رئيسة، أوّلها تخفيض سعر صرف العملة وتوحيده، فالسّعر الرّسميّ للدّولار 1500 ليرة، فيما يباع في السّوق السوداء بـ4200 ليرة، إضافة إلى زيادة الضّرائب وإعادة هيكلة القطاع المصرفيّ بشقّيه؛ مصرف لبنان والمصارف”.

ولفت مارديني إلى أنّ “صندوق النّقد سيطلب تغييرًا بسياسة مساعدة الفقراء عبر وقف دعم السّلع الّتي تؤدّي إلى الهدر والفساد والتّهريب إلى سياسة دعم الفقير مباشرة، عبر إنشاء صندوق لدعم الفقراء مثلاً، وهذه السّياسة ضروريّة يجب على لبنان أن يقوم بها مع أو دون صندوق النّقد الدّوليّ، وبهذه الطّريقة يصبح لدى الفقير المال لينتقي السّلع التي يراها أساسيّة في حياته اليوميّة”.

ورأى مارديني أنّ “هناك نيّة لدى الحكومة لتنفيذ شروط صندوق النّقد، ولكن هناك بعض الأطراف في الحكومة تستمرّ بالعرقلة، ولم تستوعب حتى السّاعة خطورة الوضع على صندوق النّقد، وهذا ما سيؤخّر التّفاوض ويعمّق الأزمة”.

أما بخصوص أبرز الخطوات الّتي يجب على الحكومة اللّبنانيّة اتخاذها، لكسب ثقة صندوق النّقد، وبالتّالي إنجاح المفاوضات، يقول مارديني: “بداية وقف سياسات الدّعم المتّبعة من قبل مصرف لبنان والحكومة اللّبنانيّة، فالحكومة تهدر الكثير من الدّولارات على سياسة الدّعم المتّبعة عبر مصرف لبنان، من دعم المحروقات، والقمح والأدوية، إضافة إلى دعم قطاع الكهرباء عبر بيعه بسعر أقلّ من سعر التّكلفة، وهذا الدّعم يؤدّي إلى هدر الدّولار الّذي يملكه مصرف لبنان، فمثلاً منذ بداية أزمة انهيار العملة الوطنيّة، اتّخذ مصرف لبنان قرارًا بدعم استيراد المحروقات على سعر الصّرف الرّسميّ وهو 1507 ليرات لبنانيّة مقابل الدّولار، فيما سعّر صرف اللّيرة في السوق بـ 4200 ليرة مقابل الدّولار، وبالتّالي صندوق النّقد يرفض إعطاء الدّولة أموالاً لتنفقها على سياسات الدّعم، الّتي يعتبرها سياسات هدر، إن كان من قبل مصرف لبنان أو الحكومة”.

وأكد رئيس المعهد اللّبنانيّ لدراسات السّوق “أنّ وقف الدّعم يحلّ مشكلتين، أولاهما مشكلة خسارة مصرف لبنان للعملة الصّعبة من الدّولار، إضافة إلى مشكلة التّهريب الّتي تفقد لبنان ملايين الدّولارات، فبعد وقف سياسات الدّعم تتوقف تلقائيًّا عمليّات تهريب السّلع المدعومة من لبنان إلى سوريا، لأنّ أسعارها تصبح موازية لأسعارها في سوريا”.

وتابع مارديني: “إنْ لم تقم الدّولة بتعديل تسعيرة الكهرباء، لتصبح كلفة تسعيرتها تغطّي كلفة الإنتاج، فأيضًا صندوق النّقد الدّوليّ غير مستعدّ لدعم لبنان بالعملة الصّعبة لتنفقها على قطاع الكهرباء المسؤول عن نحو 50 في المئة من الدَّيْن العام، ومع انخفاض سعر برميل النّفط بات سهلاً علينا الانتقال من تسعيرة ثابتة إلى تسعيرة متغيّرة تنخفض وترتفع حسب ارتفاع وانخفاض سعر برميل النّفط، هذه الطّريقة يمكنها حلّ مشكلة الكهرباء لوقف الدّعم عن هذا القطاع الّذي أنهك خزينة الدّولة، وهذا شرط أساسيّ من شروط صندوق النّقد الدّوليّ”.

إذًا فجوة كبيرة تفصل معظم الطّاقم السّياسيّ عن الواقع، بما يتطلّبه من تحمّل للمسؤوليّة حيال أزمة تشدّ البلد نحو الانهيار الكارثيّ، وهو بحسب معلومات صحفيّة، ما عبّر عن الخشية منه ممثّلون عن المؤسّسات الماليّة الدّوليّة، وما نبّهت منه أيضًا رسائل متتالية نقلها سفراء غربيّون إلى كبار المسؤولين في الدّولة من جهات دوليّة سياسيّة وماليّة، تقاطعت حول سؤال أساسيّ: أين إصلاحات الحكومة اللّبنانيّة؟

وكانت الحكومة اللّبنانيّة قد أقرّت في نهاية نيسان/أبريل الماضي خطّة إصلاحيّة، وطلبت مساعدة صندوق النّقد الدّوليّ، وتأمل بالحصول على 10 مليارات دولار، فيما تبلغ ديون لبنان 92 مليار دولار، وتقترح الخطّة التّقشفيّة الممتدّة على خمس سنوات إصلاحات على مستويات عدّة، بينها السّياسة الماليّة وميزان المدفوعات والبنى التّحتيّة، وإعادة هيكلة للديون، أمّا على صعيد القطاع المصرفيّ، ترمي الخطّة إلى حماية أموال المودعين وتقوية المصارف وإعادة هيكلتها، ومع تواصل المفاوضات القاسية بين صندوق النّقد ولبنان، طرح البعض تساؤلات بشأن السيناريوات المتاحة أمام لبنان بعد انتهاء المحادثات، من أجل إنقاذ الوضع الاقتصاديّ المتردّي؟!

سيناريوات بعد انتهاء المحادثات!

وطرحت أطراف سياسيّة إمكان عقد مؤتمر حوار وطنيّ يضمّ المكوّنات السّياسيّة والاقتصاديّة للاتّفاق على خريطة طريق للمرحلة المقبلة، وأتت هذه الدّعوة انطلاقًا من جملة تحدّيات لا بدّ من تأمين الوفاق الوطنيّ ووحدة الصّفّ من أجلّ مواجهتها وتخطّي هذه المرحلة “القاسية” اقتصاديًّا وماليًّا بأقلّ الخسائر الممكنة.

ويرى محلّلون أنّ المفاوضات بين لبنان وصندوق النّقد الدّوليّ لوضع خريطة طريق لكيفيّة الخروج من الأزمة الحاليّة، أفضل فرصة لتبيان وحدة الموقف الرّسميّ والظّهور أمام الدّول الأعضاء في الصّندوق- وهي بطبيعة الحال الدّول المانحة، بمظهر الدّولة الموحّدة في رؤياها الاقتصاديّة للحلّ.

فعلى رغم دخول لبنان مسار المفاوضات بـ”دعسة ناقصة” وخطأ فادح، وهو اختلاف أرقام الحكومة المقدّرة للخسائر عن أرقام مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، إلا أنّ الأوان لم يفت لتصحيح ما حصل، وهذا لا يتمّ إلا بتوحيد الأرقام والاتّفاق على ورقة عمل واحدة تُقدّم إلى الجهات المانحة في مقابل الحصول على الدّعم الماليّ اللّازم والضّروريّ.

فكرة عقد طاولة حوار وطنيّ طُرحت على بساط البحث من جهات دبلوماسيّة معنيّة بالملفّ اللّبنانيّ، وذلك من أجل توحيد الموقف الرّسميّ بالتّزامن مع رحلة ألف ميل التّفاوض مع صندوق النّقد الدّوليّ.

بين فكّي كمّاشة..

يبدو أنّ فوز لبنان بالدّعم الماليّ المرجو، مزروع بمطبّات وعوائق سياسيّة استراتيجيّة، مطبّات تظهر معالمها بوضوح يومًا بعد يوم، آخر ما رشح في هذا الصّدد، التّشدّد الأميركيّ الغربيّ تجاه حزب الله وحلفائه في لبنان، والّذي عادت وذكّرت به السفيرة الأميركية دوروثي شيا، قائلة إنّ على الحكومة خصوصًا، والدّولة اللّبنانيّة عمومًا، أن ترسم حدًّا فاصلاً بينها وبين حزب الله، وتضع للأخير سقفًا لقدرته على التّحكم بتوجّهاتها، وإلّا فإنّها لن تحصل على أيّ مساعدات من الجهات المانحة.

وليس هذا فحسب، بل ستفرض واشنطن عقوبات على كلّ من يساعد حزب الله سياسيًّا وماليًّا وعسكريًّا، أيًّا كانت انتماءاته السياسيّة والمذهبيّة، والأخطر أنّ هذه العقوبات، ستتوسّع دائرتها مع دخول “قانون قيصر الأميركيّ” حيّز التّنفيذ، والأخير يطال كلّ من يدعم النّظام السّوريّ بأيّ شكل من الأشكال، أو يتعاون معه… وهنا نعود بالذاكرة إلى “الرّحلات الاقتصاديّة” التي بدأها عدد من الوزراء اللّبنانيّين فور نيل الحكومة الثّقة، وبذلك، فإنّ الإصرار على الذّهاب أبعد في هذا النّهج الانفتاحيّ على الدّولة السوريّة، والّذي ينادي به بوضوح عرّابُو الحكومة السياسيّون تحت شعار أنّ “الانفتاح على المشرق مفيد للبنان تجاريًّا واقتصاديًّا”، هذا النّهج، بحسب ما تقول مصادر سياسيّة معارضة سيكلّف لبنان غاليًا في المستقبل، بحيث سيصعّب عليه مفاوضاته مع صندوق النّقد الدّولي، خاصّة أنّ واشنطن أكبر مموّليه، وسيفتح عليه “جحيم” عقوبات ثقيلة، هو في غنى عنها اليوم.

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع وكالة أنباء هاوار