في العام 2004 كانت دولة جورجيا تعاني من 19 ساعة من التقنين اليومي ونسبة الجباية لديها لم تكن تتجاوز الـ 30% من الجباية الفعلية، كما كانت تستورد الكهرباء من الدول المجاورة، بالإضافة إلى دين وفساد كبيرين. ولكن هذا المشهد انقلب رأساً على عقب في العام 2006، فاستطاعت جورجيا عبر تحسين الشفافية وتحرير القطاع من الحصول على 24 ساعة من الكهرباء ونسبة 96% من الجباية الفعلية. وأكثر، فقد توصلت جورجيا الى أن تصبح مصدرة للكهرباء.وضع جورجيا في العام 2004 يشبه الى حد كبير وضع لبنان اليوم، فهل يمكن أن يفيد لبنان من تجربة هذا البلد؟ يشرح الخبير الفرنسي في سياسات المنافسة البروفيسور بيار غاريلو لـ”النهار” أنه بعد عامين من الثورة الوردية في جورجيا وضعت الحكومة الجديدة في أولوياتها اصلاح قطاع الكهرباء الذي تم على مرحلتين. المرحلة الاولى كانت بضبط الفساد عبر تسليم القطاع الى جهة واحدة بهدف ضبط المسؤولية وعدم توزيع التهم بالفشل يميناً ويساراً. وفي الموازاة اتخذوا اجراءات عدة منها استبدال ادارة شركة كهرباء بعناصر جديدة من الشباب لم تنخرط بأجواء الفساد، مع الاستعانة بموظفين أجانب. ووضعوا عدادات في كل الاحياء، وعمدوا في المقابل الى قطع التيار عن الحي بأكمله إذا تجرأ أحدهم بسرقة الكهرباء أو تمنع عن الدفع، وهذا ما دفع بسكان الحيّ الواحد الى ضبط بعضهم البعض. كما قطعوا التيار عن المؤسسات التي لا تدفع ومن بينها مستشفيات. ومن الاجراءات ايضاً استبدال الموزعين المحليين الفاسدين بآخرين أجانب. وقسموا شبكة الكهرباء الى 50 منطقة وعينوا مديراً على كل منطقة مع تحفيزهم بمكافآت مالية ضخمة كلما كانت الجباية جيدة، أو أن مصيرهم سيكون الطرد في حال لم يكن أداءهم جيداً في الجباية. وهذا الامر ادى الى تضاعف الجباية مرات عدة”.
أما المرحلة الثانية من الاصلاح، يتابع غاريلو، فكانت بتحرير قطاع الكهرباء اي أنهم سمحوا للمستهلكين أن يشتروا كهرباء من الموزعين مباشرة. كما أنهم حرّروا الأسعار، وخصخصوا جزءاً كبيراً من الانتاج. كما التزمت الحكومة خطة تمتد على 12 سنة لطمأنة المستثمرين وتحفيزهم على الاستثمار.
وإذ يقر غاريلو أن هذا التحول في لبنان صعب، إلا أنه يؤكد في الوقت عينه أنه “غير مستحيل”، لافتاً الى أنه “بات ضرورياً فتح الأسواق للمنافسة وإعادة وضع تسعيرات جديدة حتى يكون الزبائن والمنتجون على بيّنة أين يستثمرون ومتى يرشدون من استهلاكهم. وينبغي كذلك إنشاء هيئات تنظيمية مستقلة عن القوى السياسية”.
الحل في لبنان يحتاج الى “نفس طويل” لكي يؤتي بالنتائج المتوخاة، يقول غاريلو، مستنداً في ذلك الى تجارب أوروبية وأميركية. إذ إرتأت معظم الدول إعادة فتح بعض أقسام سلسلة إنتاج الكهرباء للمنافسة بعد تأميم استمر لسنوات، فسمحوا للشركات الخاصة بإنتاج الكهرباء وتوزيعها للمستهلك النهائي مباشرة. ولم يبق تحت الاحتكار سوى نقل الكهرباء على اعتبار أنه يتطلب بناء وصيانة شبكة من خطوط التوتر العالي”.
وفي ظل فتح الأسواق للمنافسة، يشير غاريلو أنه “تم تقوية دور هيئات الدولة التنظيمية بعدما كان دورها يقتصر على مراقبة الأسعار التي تحددها الشركة الوحيدة لإنتاج الكهرباء، والتي غالباً ما كانت بيد الدولة، خصوصاً وان المنافسة باتت تستدعي إدارة تضمن وصول مختلف المنتجين إلى شبكة النقل والتوزيع بما في ذلك المنتجين الأجانب”.
ورغم أن هذا التحول في قطاع الكهرباء قد حصل تدريجياً، وعلى أسس متينة في معظم البلدان المتقدمة اقتصادياً إلا أنه لم يخل من المشاكل وفق ما يؤكد غاريلو، “لقد ثبت أن هذا التحول أكثر صعوبة في البلدان التي كانت فيها شركات الكهرباء العامة تعاني من نقص كبير في الكفاية أو تحولت من شركة كفيّة إلى شركة غير كفيّة كما هي الحال في لبنان. ويعود ذلك لعدم قدرتها على الاستجابة لارتفاع أسعار المحروقات، ما أدى إلى تغيير جذري في بيئة القطاع. وبطبيعة الحال، فقد لجأ المستهلكون، أفراداً ومؤسسات، في البلدان التي تكون فيها خدمة الكهرباء رديئة ويكون فيها انقطاع التيار الكهربائي القاعدة لا الاستثناء، إلى “نظام دبر راسك” للحصول على هذا المورد الثمين”.
وتؤدي هذه الإستراتيجية كما هي الحال في لبنان، وفق ما يؤكد رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك المارديني إلى “إفقار مطّرد لشركة الكهرباء العامة، مع استحالة تحسين الخدمة، ما يعمق عجز خزينة الدولة بشكل متواصل. وتجد الدولة نفسها مجبرة على إنقاذ شركة كهربائها أو دعمها بعد أن باتت مكلفة للغاية بسبب عدم كفاية مختلف أقسام الكهرباء (الإنتاج والنقل والتوزيع وخدمة الزبائن). وما خسائر الكهرباء المتراكمة منذ العام 1992 والتي بلغت نحو 36 مليار دولار إلاّ دليل على ذلك، ما يعني برأيه أن الكهرباء تتحمل مسؤولية 45% من الدين العام اللبناني”.
ويتفق المارديني مع غاريلو على ضرورة فتح ما يمكن فتحه من أقسام الكهرباء أمام المنافسة بغية الافادة من الديناميكية والابتكار الذي يرافق هذا الانفتاح، مؤكداً ضرورة “إعادة وضع تسعيرات جديدة حتى يكون المنتجون والزبائن على بيّنة: أين يستثمرون ومتى يرشدون استهلاكهم. وشدد في الوقت عينه على ضرورة إنشاء هيئات تنظيمية مستقلة عن القوى السياسية”.
وكان المعهد اللبناني لدراسات السوق استضاف غاريلو ليتحدث عن قطاع الكهرباء بعنوان: “قطاع الكهرباء في لبنان: الحلول في متناول أيدينا”، في فندق لوغري. وأكد المارديني أن “قطاع الكهرباء تجاذبات سياسية ومالية قد تطيح بخطة الكهرباء التي اقترحها وزير الطاقة سيزار أبي خليل. ومشاكل هذه الخطة عديدة منها كلفة استئجار السفن وكلفة بناء معامل جديدة، والتي قد تطيح ميزانية الدولة، هذا إذا ما تم التوافق عليها أصلاً. لقد حان الوقت لتقويم حلول جديدة”.