تُثير موازنة عام 2026 اللبنانية تساؤلات جوهرية حول مدى جديتها الإصلاحية، إذ صُوِّرت على أنها متوازنة وعادلة ولا تتضمن ضرائب جديدة، وأنها محطة انطلاق أساسية في عملية التنمية الاقتصادية. لكن الواقع يكشف أنها لا تحيد عن سياق الموازنات السابقة، وتعتمد بشكل شبه كلي على الضرائب غير المباشرة مع إهمال واضح للإيرادات الاستثمارية.
أُقرَّت موازنة 2025 بمرسوم من مجلس الوزراء نظراً لانشغال مجلس النواب بانتخاب رئيس الجمهورية، وكان الأمل معقوداً على أن تأتي موازنة 2026 كموازنة إصلاحية فعلية. لكن جاءت هذه الموازنة على غرار سابقاتها من حيث عدم تضمينها قطع الحساب الذي يُبيِّن بالضبط كيفية إنفاق الأموال وجباية الإيرادات وتوزيعها، وهو أمر بالغ الأهمية لإتاحة الفرصة أمام النواب لمحاسبة الحكومة ومساءلتها عن التوقعات التي تضعها. تواصل هذه الموازنة نهج تحديد النفقات أولاً، ومعظمها نفقات تشغيلية، ثم البحث عن مصادر الإيرادات لتغطيتها من خلال فرض الضرائب والرسوم المتنوعة. يتناقض هذا المنهج مع الدور الحقيقي للموازنة كأداة تدخل أساسية للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين ومختلف المرافق العامة والخاصة، وليست مجرد أداة محاسبية تهدف إلى التوازن فقط.
تبلغ قيمة الموازنة حوالي 5.65 مليار دولار، بزيادة قدرها 850 مليون دولار عن موازنة 2025. تعتمد هذه الموازنة بنسبة 83% على الإيرادات الضريبية، ونصف هذه الإيرادات يأتي من الضرائب غير المباشرة، وأبرزها الضريبة على القيمة المضافة (TVA). تشير الأرقام المالية المنشورة عن عام 2024 إلى أن الدولة حققت إيرادات بقيمة 3.9 مليار دولار، منها 2.8 مليار دولار من الضرائب غير المباشرة، وحوالي 1.3 مليار دولار من ضريبة القيمة المضافة وحدها. يعكس هذا التركيز على الضرائب غير المباشرة استسهالاً في فرضها على المواطنين لسهولة تحصيلها وعدم وجود تخلف في دفعها. تتجاهل هذه السياسة حقيقة أن نصف الاقتصاد اللبناني تقريباً هو اقتصاد موازٍ غير شرعي لا يدفع الضرائب ويمارس التهرب الضريبي والتهريب الجمركي، مما يُحمِّل الاقتصاد الشرعي والمواطنين الملتزمين عبء كل هذه المشاكل.
تتوقع الموازنة تحصيل إيرادات جمركية كبيرة هذا العام تُقدَّر بحوالي مليار دولار. لكن على الرغم من أن هذا الرقم كبير مقارنة بالسنة الماضية والسنوات السابقة، ويدل على تحسن في الجمارك وتحصيل الرسوم الجمركية، إلا أنه يشكل 7% فقط من مجمل الواردات المتوقعة البالغة 20 مليار دولار. يدل هذا الرقم المنخفض على استمرار التهرب الضريبي والتهريب الجمركي بشكل كبير في لبنان. تُنفق الدولة على مؤسسات إنتاجية بدلاً من أن تشكل هذه المؤسسات مصدراً للإيرادات. تملك الدولة اللبنانية حقوقاً احتكارية في مؤسسات إنتاجية ضخمة تشمل الكهرباء، الاتصالات الخليوية، المياه، مصنع الريجي، مطار بيروت (طيران الشرق الأوسط حصري للدولة)، والكازينو. لكن بدلاً من تحقيق إيرادات كبيرة، تُنفق الدولة مبالغ على هذه المؤسسات وتحقق إيرادات أقل بكثير.
في عام 2024، لم تحقق شركات الاتصالات الخليوية أكثر من 200 مليون دولار، وتشكل جميع الإيرادات غير الضريبية للدولة 17% فقط من إجمالي الإيرادات، وهي نسبة ضئيلة جداً بالنظر إلى الإمكانيات المتاحة. لا تسمح الدولة في المقابل بدخول المنافسة إلى هذه القطاعات لتنويع الخدمات وتقديمها بكلفة أقل وجودة أعلى للمواطن.
تتكون النفقات في هذه الموازنة، كما في الموازنات السابقة، من نفقات تشغيلية بشكل أساسي، حيث يذهب نصفها إلى الرواتب والأجور والتقديمات للموظفين. لم يتم إجراء إصلاح حقيقي للقطاع العام المتضخم من حيث عدد العاملين الفعليين وأعداد المتقاعدين، على الرغم من عدم وجود إحصاء فعلي يحدد الأرقام الحقيقية. يُستخدم غياب هذه الإحصاءات كمبرر لعدم وضع سلسلة رتب ورواتب في الموازنة بانتظار إصلاح القطاع العام. يوجد خلاف حالياً على مشروع قانون التوصيف الوظيفي الذي يدرسه مجلس الخدمة المدنية، وهناك تساؤلات حول إمكانية إجراء إعادة هيكلة فعلية للقطاع العام لتخفيف أعداد الموظفين في بعض المجالات ونقلهم إلى مجالات تعاني من نقص. تواجه الإدارة العامة نقصاً كبيراً في الموظفين، في حين يوجد تضخم في القطاعات الأمنية وأعداد المعلمين والأساتذة مقارنة بحجم التعليم الرسمي الفعلي في البلد. تشكل حصة المدارس الرسمية من مجمل المدارس 26-30% بالحد الأقصى من أصل مليون تلميذ في لبنان، في حين يوجد 1300-1400 مدرسة رسمية و35,000-40,000 أستاذ، وبعض المدارس يوجد فيها أعداد أساتذة أكثر من أعداد الطلاب.
توقفت جميع المشاريع والبرامج باستثناء ما ورد في موازنة 2026 المتعلق بمرفأ الجية. الأخطر من ذلك أن الدولة لم تحتسب في هذه الموازنة القروض التي عقدتها خلال العام الجاري، والتي تبلغ قيمتها حوالي مليار دولار، موزعة بين 250 مليون دولار للبنى التحتية، 200 مليون دولار للزراعة، و250 مليون دولار للكهرباء. تمثل هذه القروض نفقات يجب على الدولة دفعها، لكنها غير مذكورة في الموازنة.
جاءت هذه الموازنة كأنه لا توجد حرب ولا إعادة إعمار ولا أزمة مالية في البلد. تتجاهل الموازنة الواقع المعاش وتفتقر إلى أي رؤية إصلاحية حقيقية تعالج التحديات الكبرى التي يواجهها لبنان. ليست هذه “أفضل الممكن” كما يُروَّج. كان يمكن الانتقال من نظام الضريبة النوعي الذي يسمح بالتهرب الضريبي إلى نظام الضريبة الموحدة على الأجور بشكل تصاعدي، وهو ما اقترحته لجنة مختصة شكلتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وقدمت مشروع قانون بهذا الشأن. يسمح هذا النظام بوقف التهرب الضريبي وتوجيه الضرائب نحو الأشخاص الذين يحققون دخولاً أعلى بدلاً من الضرائب غير المباشرة.
كان بالإمكان تحسين العائدات والإيرادات من المرافق البحرية والبرية، وتحسين الإيرادات من الرسوم على المنتجعات البحرية والأملاك البحرية والكسارات، حيث يُقدَّر الحد الأدنى للإيرادات الممكنة من هذه المصادر بـ3 مليارات دولار. كان يمكن أيضاً تنفيذ ما كان مطروحاً في موازنة 2017 أو 2018 بعد مؤتمر سيدر، حيث كان مفترضاً أن تطلب وزارة المالية من البلديات إجراء إحصاء شامل في نطاقها، تحدد فيه كل بلدية المؤسسات والمرافق الموجودة في منطقتها، من مولدات كهرباء وخطوط دش وتوزيع كيبل وإنترنت وغيرها، وتقديم هذه المعلومات لوزارة المالية لمعرفة من يدفع الضرائب بالضبط وحجم الضرائب المحصلة ومصادرها. لم يتم تنفيذ هذا الإجراء حتى اليوم، على الرغم من سهولة تطبيقه.
تكشف موازنة 2026 استمرار النهج القديم في إدارة المالية العامة، حيث يتحمل المواطن والاقتصاد الشرعي العبء الأكبر من خلال الضرائب غير المباشرة، في حين تستمر مكتسبات الطبقة الحاكمة دون مساس، وتستمر في استنزاف موارد الوطن دون إعادتها إلى مسارها الصحيح. لن تتحقق الإصلاحات المطلوبة إلا بوجود نية حقيقية وإرادة سياسية، وحينها لن تُعدم الوسيلة.