تتذرع وزارة الطاقة والمياه بخطر العتمة ونفاد المخزون من الفيول أويل والغاز أويل وتوقف المعامل عن إنتاج الطاقة وضرورة “السرعة القصوى”، لتلغي المنافسة وتمنع إتاحة الفرصة أمام عارضين من خارج الحلقة المختارة لتقديم عروضهم بالشكل والوقت المناسبَين. ويأتي ذلك علما أن الوزارة لا تلتزم بالمهل المختصرة وإنما تمددها لصالح عارضين محددين دون سواهم.
فقد تقدمت ثلاث شركات بعروضها في مناقصة الفيول الأخيرة لشهر كانون الأول ٢٠٢٣. وتم رفض عرض إحداها كونه أرسل عبر البريد الإلكتروني وليس ورقيا، ولم يتم إعطاء الشركة الوقت الكافي لتقديم عرضها بالشكل المناسب. وفي المقابل، أُعطيَ الوقت لشركة أخرى لا يشتمل عرضها على المستندات الأصلية ولا يحتوي على عنصر السعر. وقد قام وزير الطاقة والمياه أثناء جلسة التلزيم بالتدخل شخصيًا لاستكمال مستند ناقص لعارض محدد، في الوقت الذي كانت فيه لجنة التلزيم تتجه إلى رفض هذا العرض. ويثبت كل ما تقدم أن المدة الزمنية لتقديم العروض غير كافية ويتم تمديدها وفقا لعامل المحاباة.
ويضرب تصرف الوزير استقلال لجان التلزيم وحياديتها. فهو يتدخل في عملها ويحضر جزءًا من اجتماعاتها ويطلب منها إعادة النظر في قراراتها. كما لا يراعي الوزير مسألة توفر الاعتمادات قبل توقيع العقود، ما قد يرتب أعباء مالية بمسمى غرامات على الخزينة العامة ويبتدع الحجج والذرائع للهروب منها. وتكون النتيجة على مر السنين عددًا محددًا من الشركات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة يحتكر سوق الفيول برعاية وحماية من الوزارة.
وقد شكّل تجاوز وزارة الطاقة والمياه للقوانين الناظمة للمناقصات منذ قرابة الخمسة عشر عامًا مثالا يستحق التوقف عنده. فـ “ثلم” مناقصاتها “الأعوج” دائمًا مردّه إلى “ثور” احتكارها الكبير لاستيراد المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان على حد قول المثل الشعبي الذي يوصّف بطريقة ساخرة الاختلال الناجم عن قوة زائدة.
وقد اضطلعت وزارة الطاقة، بصفتها سلطة الوصاية على مؤسسة كهرباء لبنان العامة، بتنظيم استيراد شحنات المحروقات لمعامل الإنتاج. ولعلّ حجة الوزارة الدائمة لتنفيذ مناقصات “كيفما اتفق” هي نفاد المخزون وخطر انفصال الشبكة. فهي تنتظر حتى جفاف آخر نقطة من خزانات المعامل لتبدأ الإعداد للمناقصة بشكل يخالف قواعد الحوكمة الرشيدة وبنود قانون الشراء العام وأبسط قواعد المناقصات العمومية. وهي بذلك تفصّل دفتر شروط على قياس شركات محددة، ولا تعطي الوقت الكافي للعارضين للتقدم بعد سحبهم دفتر الشروط، وتدخل عارضين وهميين لإضفاء جوا من المنافسة. وهكذا تنتهي الصفقات في جيوب عارضين محددين سلفا بأسعار غير تنافسية تُدخل على جيوبهم ملايين الدولارات على حساب الخزينة والشعب اللبناني.
ويظهر استمرار التلاعب بالصفقات العمومية في وزارة الطاقة صعوبة تصدي الهيئات الرقابية لممارسات الوزارة. ويفترض المنطق أن يعيدنا لمرة أخيرة إلى جوهر المشكلة، وهو ببساطة: عدم أهلية وزارة الطاقة في أن تحل محل القطاع الخاص. ولم تكن هذه المشكلة لتُواجَه أصلا لو أن من يدير الكهرباء في مختلف مراحل الإنتاج والنقل والتوزيع شركات خاصة تتنافس فيما بينها لتقديم الخدمة الأفضل بالسعر الأنسب.
ونحن نقترح تقسيم قطاع الكهرباء وفتح مختلف أقسامه على المنافسة. عندها يمكن لكل راغب في إنتاج الطاقة من المصادر الأحفورية كالنفط والفيول أويل، أو المستدامة من خلال “توربينات” الرياح أو ألواح الطاقة الشمسية، دخول السوق وتقديم خدماته. وعليه يتحمل منتج الطاقة المستقل مسؤولية شراء محروقاته بسعر تنافسي.
ومن هنا تبرز أهمية إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء التي تضع الشروط وقواعد المنافسة في السوق وتراقبها. ويعود ذلك بالخير والمنفعة على الجميع ويقضي على فساد الصفقات العمومية. ولعلّ في سياق النص أدناه ما يكفي من دلالات على حجم تجاوزات وزارة الطاقة وعدم احترامها لما يتم وضعه من قواعد وقوانين. وتبرز في المقابل الحاجة إلى فتح القطاع أمام المنافسة الشفافة بعيدا عن سلطة الوزراء المدعومين بالسلطة السياسية المطلقة.
كيف تطبق وزارة الطاقة والمياه قانون الشراء العام؟
يُعتَبَر النهج السائد في وزارة الطاقة والمياه منذ عشرات السنين نهجًا قائمًا على التحايل على القوانين والقفز فوقها؛ إذ لا وجود للتخطيط في قاموس الوزارة ولا تملك رؤية واضحة لدورها. وهي تتذرع بالعتمة وبمقولة “الضرورات تبيح المحظورات” على مدى سنوات وتتمسك بالاستثناء لتطبقه على الدوام دون أن تطبق القاعدة يوما واحدا. هكذا تعاملت مع قانون المحاسبة العمومية فقفزت فوقه وأجرت صفقاتها في مكتب الوزير من خارج إدارة المناقصات؛ واليوم تتعامل بالطريقة ذاتها مع قانون الشراء العام النافذ اعتبارا من ٢٩ -٠٧-٢٠٢٢ .
- السرعة القصوى ذريعة قديمة متجددة عمرها سنوات:
لعلّ من نتائج غياب التخطيط وانعدام الحوكمة في العمل الإداري أن يجد المسؤول نفسه دائما على مدى عشرات السنين أمام وقت قصير لاتخاذ قرار يحول دون حدوث كارثة. وهذا هو شأن صفقات وزارة الطاقة على الدوام: فالمطلوب مهل قصيرة وإلا حلّت العتمة ونفد المخزون من الفيول أويل والغاز أويل وتوقفت المعامل عن إنتاج الطاقة الكهربائية.
إنها “السرعة القصوى”، كما تصفها الوزارة، تأتي دائما على حساب المنافسة وإتاحة الفرصة أمام عارضين من خارج الحلقة المختارة لتقديم عروضهم بالشكل والوقت المناسبَين وفقًا لقانون الشراء العام، علما أن الوزارة لا تلتزم بالمهل المختصرة وإنما تمددها لصالح عارضين محددين دون سواهم.
ويُفترَض بوزارة الطاقة والمياه عملًا بأحكام المادة 11 من قانون الشراء العام، وقبلها عملا بأحكام نظام المناقصات، وضع الخطط السنوية مسبقًا وإرسالها إلى هيئة الشراء العام، على أن تشمل الخطة تحديد تواريخ تقريبيّة لمواعيد إجراء الصفقات. وينبغي أن تراعي هذه المواعيد وجود مخزون أمان (احتياطي) من الفيول والغاز أويل يسمح بإطلاق المناقصات ويأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية التي تستغرقها إجراءات المناقصات.
إلا أن التجربة أثبتت أن لا علاقة لوزارة الطاقة والمياه ومستشاريها ومن تولوا إدارة شؤونها بعلم الإدارة والتخطيط، وتحديدًا إدارة المخزون (Gestion des stocks – stock d’alerte – stock de sécurité).
٢.الوزارة تدين نفسها بنفسها وتتذرع دائما بمقولة “أبدت عدة شركات عالمية اهتمامها بالمشاركة في المناقصة العمومية”.
نعم! إنها قصة تاريخية: حيث سحبت أكثر من ستين شركة دفتر شروط ما يسمى بمناقصة بواخر ٢٠١٧، وكانت النتيجة عرضاً وحيداً. وعندما يُقال لوزارة الطاقة إنّ المناقصة جرت بعرض وحيد، يردد مسؤولوها ومستشاروها بالعبارة الشهيرة “أبدت عدة شركات عالمية اهتمامها بالمشاركة في المناقصة العمومية”. وهنا السؤال: هل الرغبة في المشاركة تخلق المنافسة أم أنّ المشاركة الحقيقية هي التي تخلق المنافسة الحقيقية؟ واستطرادا ينبغي على وزارة الطاقة والمياه أن توضح لماذا تمتنع هذه الشركات التي تبدي اهتمامها عن المشاركة في تقديم العروض، ولماذا لم تعطَ هذه الشركات المهل الكافية لتقديم عروضها.
ويُعتبَر اهتمام العديد من الشركات العالمية بالمشاركة ثم إحجامها عنها دليلًا على العوائق الموضوعة أمامها من قبل الوزارة، ولا سيما تخفيض مهلة الإعلان ثم تمديدها.
٣. وزارة الطاقة تضرب بمبدأ المساواة عرض الحائط وتعامل العارضين بالمحاباة:
في مناقصة الفيول الأخيرة لشهر كانون الأول ٢٠٢٣ “تقدمت ثلاث شركات بعروضها إلى لجنة التلزيم حيث تم رفض العرض المقدم من قبل إحداها كونه أرسل عبر البريد الإلكتروني وليس ورقيا”. ولم يتم إعطاء الشركة الوقت الكافي لتقديم عرضها بالشكل المناسب، كما أعطي هذا الوقت لشركة أخرى تقدمت بعرض يشتمل على صور مستندات لا على المستندات الأصلية، بالإضافة إلى عدم احتوائه على عنصر السعر.
ويثبت كل ما تقدم أن المدة الزمنية لتقديم العروض غير كافية ويتم تمديدها وفقا لعامل المحاباة، وعليه فإن ثمة مخالفة لأحكام المادتين 11 وـ 12 من قانون الشراء العام، وبالتالي يثبت أنه كان على الوزارة إعطاء مهل كافية منذ البداية لتقديم العروض عملا بمبادئ العلنية والمنافسة وتكافؤ الفرص.
٤-ترتيب تقديم عروض صورية:
لعلّ هذا ما حصل أيضا في جلسة يوم الأربعاء 8 تشرين الثاني 2023 حيث تضمن أحد العروض عرضًا ماليًا لا يحتوي على عنصر السعر وفقا لمتطلبات دفتر الشروط الخاص بالصفقة. وقد أثار مندوب هيئة الشراء العام عدة تساؤلات حول مسار جلسة التلزيم. واستطرادًا يُطرَح السؤال التالي: لماذا قُدِّم عرض مالي غير مكتمل؟ أَلِكَيْ لا يبقى العرض الآخر وحيدًا ؟ كما تمت المقارنة مع سعر تقديري وارد في مستند لا يحمل تاريخًا، وهو ما يتناقض مع مفهوم القيمة التقديرية المشار إليها في المادة 13 من قانون الشراء العام ولا يُعتَدّ به، لأن القيمة التقديرية ترتبط بتاريخ محدد وظروف محددة وهي واجبة التحديث عملًا بأحكام المادة 13 من قانون الشراء العام.
٥-وزير الطاقة يتدخل في عمل لجنة التلزيم بما يضرب استقلاليتها عن الجهة الشارية المكرسة في المادة ١٠٠ من قانون الشراء العام.
استنادًا إلى ما جاء في تقرير هيئة الشراء العام رقم 6 تاريخ 15/11/2023 المنشور على موقعها الإلكتروني والمسند إلى تقرير المراقب المنتدب من قبل هيئة الشراء العام رقم 1462 تاريخ 8/11/2023 حول ما حدث أثناء جلسة التلزيم، قام وزير الطاقة والمياه بالتدخل شخصيًا لاستكمال مستند ناقص لعارض محدد. وفي الوقت الذي كانت فيه لجنة التلزيم تتجه إلى رفض هذا العرض، كان وجود الوزير وتدخله يوجّه نحو قبوله وفتحه.
ويضرب تصرف وزير الطاقة مبادئ قانون الشراء العام المعتبرة وفقا للمادة الأولى منه من الانتظام العام ويطرح للبحث جديا فشل تجربة نقل اللجان من إدارة المناقصات إلى الوزارات. فبهذا الإجراء الذي نص عليه قانون الشراء العام أخسر الإدارة اللبنانية ضمانة استقلال اللجان وحيادية عملها. فمن يحاسب وزير الطاقة المخالف لأحكام قانون الشراء العام؟
لا تقف مسألة مخالفات وزارة الطاقة لقانون الشراء العام عند هذه الحدود. فالوزير لا يطبق معايير الكفاءة والنزاهة والحيادية في تشكيل لجان التلزيم، ويتدخل في عملها ويحضر جزءًا من اجتماعاتها ويطلب منها إعادة النظر في قراراتها. كما لا يراعي الوزير مسألة توفر الاعتمادات قبل توقيع العقود، ما قد يرتب أعباء مالية بمسمى غرامات على الخزينة العامة فضلا عن أن ذلك غالبا ما يخالف توصيات هيئة الشراء العام ويبتدع الحجج والذرائع للهروب منها. وتكون النتيجة على مر السنين عددًا محددًا من الشركات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة يحتكر سوق الفيول برعاية وحماية من الوزارة.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق