عندما تتجول في أروقة الوزارات والمؤسسات العامة، تدرك الازمة الحادة التي يعاني منها القطاع العام وبأي ظروف يعمل موظفيه. مصاعد معطلة ومتسخة، إنارة ضعيفة ومنعدمة في أماكن أخرى، اسقف مترهلة، وغرف تكدست فيها الملفات على الطاولات وفي الارض.
ان تدهور أوضاع القطاع العام وتعرض موظفيه للحرمان والذل هو من تبعات الانهيار الاقتصادي والمالي القائم والمستمر. هذا الواقع دفع مؤخرًا برابطة موظفي الادارة العامة إلى الاضراب المفتوح الذي لم يلقى حتى الان سوى وعود ما هي إلا “مجرد حكي بالهوا” بحسب رئيسة الرابطة نوال نصر.
ان الوضع في المؤسسات العامة “تعتير بالقناطير”، هكذا تصف ي.ح، وهي موظفة في وزارة المالية ظروف العمل في الوزارة، تروي للمرصد كيف يعملون في الوزارة في ظل بيئة لا تتوفر فيها أبرز متطلبات العمل من قرطاسية وإنارة ومياه. فإستحالة إستخدام المكيف في الوزارة دفعها إلى استعمال مروحة منزلها. تحملها كل يوم من المنزل إلى مقر عملها في الوزارة، “فالعمل بدون مكيف لا يحتمل، وليس بمقدرري شراء مروحة تقدر كلفتها الان حوالي 30 دولار أميركي أي ما يعادل نصف راتبي الشهري الذي لا يتجاوز المليوني ليرة لبنانية”.
جوسلين التي تسكن في ذوق مصبح وتعمل في قائمقائية المتن في الجديدة واحدة من الموظفين الذين فضلوا البقاء في المنزل بسبب إرتفاع كلفة النقل،”أحتاج إلى حوالي 200 ألف ليرة يوميًا للانتقال من منزلي إلى العمل…ناهيك عن التكاليف الاخرى من دواء وإيجار وطعام”.
’’ أصبحت كلفة الكلم الوحد بحدود الـ 5 الاف ليرة، والرواتب تشكل 15% من قيمتها قبل الازمة،،
في هذا الاطار، يشير الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين للمرصد إلى ان كل موظفي القطاع العام في حالة عجز عن تأمين حياة لائقة ومستقرة. مضيفًا “بعد ان بلغ سعر صفيحة البنزين حدود الـ 700 ألف ليرة، باتت كلفة الكلم الواحد بحدود الـ 5 الاف ليرة. بالتالي اذا أراد الموظف أن يقطع مسافة 10 كلم من منزله إلى عمله سيحتاج إلى 100 ألف ليرة يوميًا، أي ما يعادل المليوني ليرة شهريًا،… فالموظف الذي يتقاضى راتب شهري حوالي 3 ملايين ليرة، لن يتكبد عناء المجيء إلى العمل من أجل المليون ليرة، خاصة وان رواتب البعض منهم لا تتخطى المليوني ليرة”.
ولفت شمس الدين ” تصل كلفة رواتب العاملين في القطاع العام نحو 12 الف مليار ليرة أي بمعدل ألف مليار ليرة شهريًا، أي ما يوازي نحو 8 مليارات دولار سنويًا في السابق. فالرواتب حاليًا تشكل نحو 15% من قيمة الرواتب التي كانوا يتقاضونها قبل الازمة.. “.
هذا الامر برأيه يسري على تعويضات نهاية الخدمة، “فالتعويضات تبخرت، من كان يحصل على معاش تقاعدي قدره مليوني ليرة، أي ما يساوي 1300 دولار اميركي سابقا، بات يساوي حاليا حوالي 70 دولار اميركي فقط، ومن كان يحصل على تعويض نهاية خدمة قدره 100 ملبون ليرة أي ما كان يعادل 70 الف دولار في السابق، بات اليوم لا يتجاوز الـ 4 الاف دولار اميركي فقط….بالتالي أي ضمانة للمستقبل!”.
هذا الواقع المزري دفع العديد من الموظفين في الادارات العامة إلى ترك عملهم، وفق تقديرات شمس الدين بلغ عددهم في العام الحالي حوالي 12 الف عاملا من الاسلاك العسكرية المدنية.
’’ الراتب وبدل النقل والمساعدة الاجتماعية… جميعها لا تغطي كلفة انتقال الموظف من منزله الى مركز عمله، والمساعدة الاجتماعية مرتبطة بزيادة الدولار الجمركي ،،
في 13/6/2022 قررت رابطة موظفي الادارة العامة العودة الى الاضراب المفتوح، هذا الاضراب “بدأ تحذيريا ثم اتخذ منحى تصاعديا دون ادني أهتمام جدي بمعالجة الوضع المزري للموظفين الناتج عن خسارتهم لأكثر من 95% من قيمة الراتب ومن كلفة الطبابة والاستشفاء، وكلفة انتقالهم إلى مراكز عملهم..” بحسب رئيسة رابطة موظفي الادارة العامة نوال نصر.
“فالراتب وبدل النقل والمساعدة الاجتماعية المطروحة لا تغطي جميعها كلفة انتقال الموظف من منزله الى مكان عمله ثلاثة ايام في الاسبوع شهريا كما هو مشروط”.
كما تؤكد نصر الى “ان الدولة غير مفلسة بل أموالها مهدورة و منهوبة والحل يكون باطلاق يد أجهزة الرقابة والقضاء للبحث عن المال المنهوب ووقف الهبات والعطاءات غير المبررة والبدء بإصلاح حقيقي، إداري، مالي، وجنائي في كل المرافق العامة ومحاسبة كل من تقاضى قرش من المال العام لكي نسترد اموالنا…”
تشدد نصر على عدم التراجع عن الاضراب “الا باستعادة لو جزء كافي من الحقوق التي تمكن من الاستمرارية في الحياة وفي العمل”. لافتة الى ان الخطوات التصعيدية سوف تدرس في حينه.
وحول الوعود تقول نصر، “وعدنا بمنحنا مساعدة بقيمة نصف راتب لا يقل عن مليوني ليرة ولا يزيد عن 6 ملايين، امكانية اعطاء قسائم بنزين حسب المسافات، رفع موازنة تعاونية موظفي الدولة وغيرها الكثير من الوعود التي لم تنفذ حتى الان”. واعتبرت نصر ربط وزير المال المساعدة برفع الدولار الجمركي هو عذر أقبح من ذنب. وتعلق قائلة:”اذا لم يُرفع الدولار الجمركي لن يمنحوا المساعدة، وفي حال اعطوا المساعدة سيرفع الدولار الجمركي، تلك الزيادة سندفع ثمنها نحن والناس… “
على خلفية الاضراب المفتوح عقد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اجتماع في السراي الحكومي للبحث في ملف حقوق ومطالب موظفي القطاع العام، حضره زير المالية يوسف خليل، وزير العمل مصطفى بيرم، رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، مدير عام وزارة المال بالوكالة جورج معرّاوي، رئيس هيئة التفتيش المركزي جورج عطية، ورئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي. جاءت نتائج هذا الاجتماع بحسب الرئيس السابق لرابطة موظفي الادارة العامة محمود حيدر “مخيبة لآمال الموظفين ودون مستوى تحقيق الحد الادني من مطالبهم المتمثلة بتصحيح رواتبهم بما يتناسب مع نسبة التضخم وبتامين بدل نقل يتناسب مع سعر صفيحة البنزين ودعم تعاونية موظفي الدولة حتى تستطيع القيام بمهامها على مستوى التقديمات الصحية والاجتماعية والاستشفائية ودفع المعاش التقاعدي على أساس 100%” .
كما دعا حيدر الرابطة العمل على تصعيد تحركاتها من خلال التنسيق مع كافة روابط القطاع العام للاستاتذة والمعلمين في الجامعة اللبنانية وفي التعليم الثانوي والاساسي والمهني وروابط المتقاعدين العسكريين والاداريين ومتقاعدي التعليم الثانوي والاساسي وقدامي أساتذة الجامعة اللبنانية، ومع كافة الاتحادات والنقابات المستقلة، “وذلك للقيام بخطوات تصعيدية للضغط من أجل تحقيق المطالب والوقوف بوجه كل ممارسات وسياسات منظومة الفساد الحاكمة التي تستهدف إلغاء القطاع العام عبر خصخصته تنفيذا لإملاءات صندوق النقد الدولي، ولمنعهم من تحميل الموظفين وكل ذوي الدخل المحدود أثمان الانهيارات المالية والاقتصادية التي اوصولنا إليها”.
’’القطاع العام لم يعد منتج… وذوي الدخل المحدود هم الاكثر تضررا من انهيار سعر الصرف والحل الوحيد بالدولرة ،،
اعتبرالخبير الاقتصادي باتريك مارديني ان ذوي الدخل الثابت أو المحدود او بالاحرى من يتقاضى دخل بالليرة اللبنانية في لبنان من ضمنهم موظفي القطاع العام، هم الاكثر تضررا من انهيار سعر صرف الليرة، مشيرا إلى “ان هذا الضرر مفتوح، أي كلما اتجه سعر الصرف صعودا مستقبلا كلما انخفضت القدرة الشرائية لدى هذه الشريحة”.
ولفت إلى “ان تمويل زيادة الاجور عن طريق طباعة الليرة اللبنانية كما يحدث الان سوف يرفع سعر صرف الدولار أكثر، وبالتالي سوف تستمر القدرة الشرائية بالانحدار، فالدولار سيرتفع والتضخم سيزيد ..يعني ما تعطيه لهم في يد تاخذه في يد اخرى..لذلك لا يمكن الحديث عن زيادة اجور فعالة للموظفين في ظل سعر صرف غير ثابت”.
ويوضح مارديني ان الحديث عن زيادة رواتب واجور في ظل انهيار سعر الصرف هو خسارة، مشيرًا إلى” ان الطريقة الوحيدة للمحافظة على ما تبقى من القدرة الشرائية للموظف هي عبر دولرة الاجور، على أن يسبقها دولرة الضرائب. لكن لا يمكن للحكومة دولرة الضرائب دون ان تسمح للشركات ان تسعر بالدولار وتدفع معاشات موظفيها وضرائبها بالدولار أيضًا. فذلك سيسمح للدولة بدروها بأن تدفع اجور موظفيها بالدولار.. هذه الطريقة الوحيدة لتبقى حقوق الموظفين محفوظة ولحماية ما تبقى من القدرة الشرئية “.
وعن اقتراح صندوق النقد بتخفيض حجم القطاع العام، يشدد الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين على “ان مشكلة القطاع العام ليست بالحجم، بل مشكلة القطاع العام انه لم يعد منتج في ظل هذه الرواتب والاجور والتعويضات… فان إقتراح صندوق النقد بتخفيض القطاع إلعام الى 150 الف أي ما يعادل 50%، ممكن لكن بإختيار التوقيت المناسب، فلا يمكن صرف موظف من عمله في ظل الاوضاع الراهنة وفي ظل تفشي البطالة …”.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين