لتحويل أزمة اللاجئين السوريين من نقمة الى نعمة اقتصادية

لتحويل أزمة اللاجئين السوريين من نقمة الى نعمة اقتصادية

مع احتدام الصراع في سوريا انخفض النمو الاقتصادي في لبنان من 8% في ال 2010 الى ما يقارب 1% حالياً. و تزامن ذلك مع اغلاق المنافذ التجارية البرية، و تدهور الوضع الأمني، و تدفق اللاجئين السوريين. هؤلاء اللاجئون اضطروا لترك منازلهم، واملاكهم، وأرزاقهم، ومدارسهم، في غفلة من الزمن ولجأوا الى لبنان، حيث يعيش 70% منهم تحت خط الفقر بحسب ارقام مفوضية شؤون اللاجئين وبرنامج الاغذية العالمي اليونيسيف.


مناقشة وجوب استقبالهم من عدمه بات وراءنا، وعلينا الآن التفكير بكيفية الاستفادة من هذا الوجود، أو تخفيف اعبائه على الأقل، ريثما تهدأ الأمور في سوريا ويعودوا الى منازلهم سالمين.

أدى وجود ما يقارب 1.2 مليون لاجئ سوري الى زيادة الطلب على سلع وخدمات مختلفة كالمسكن، والملبس، والغذاء، والاتصالات، والتعليم، ما زاد من مدخول عدد من اللبنانيين الذين جهزوا غرفة لتأجيرها، وبعض اصحاب المحال اللذين استفادوا من زيادة حركة البيع، وبعض الاساتذة اللذين يعلمون التلامذة السوريين. لا تنحصر زيادة المدخول بصاحب الشقة المؤجرة أو محل البقالة أو الاستاذ، اذ يشرع هؤلاء لانفاقه على سلع وخدمات اخرى كالمطاعم والمقاهي والمدارس، وهكذا دواليك. لذا لا يمكن اعتبار الدعم الدولي المباشر للنازحين السوريين على انه دعم على حساب اللبنانيين. إن ال 4.9 مليار دولار من المساعدات التي دخلت لبنان منذ بداية الأزمة من خلال النازحين، تفرعت على جميع القطاعات بعد انفاقها من قبل السوريين وذهبت الى القطاعات التي اختار اللبنانيون الانفاق عليها.

كما ان للنازحين السوريين أثر ايجابي على الانتاج المحلي. فقبول اللاجئين برواتب متدنية لا يعني تلقائياً أنهم يحرمون اللبنانيون من الوظائف. اثبتت العديد من الدراسات أن المهاجرين لا يلجؤون الى العمل في القطاعات التي تضعهم بمنافسة مباشرة مع اليد العاملة المحلية، بل يفضلون مزاولة الأعمال الغير متوفرة محليا، مثل صناعة النسيج وصناعة الألعاب والزينة، لأنهم يرتضون بمداخيل متدنية. هذه الأعمال ذات المردود المنخفض لا تجري اصلاً في لبنان بسبب ارتفاع كلفة اليد العاملة المحلية، ويجري استيرادها من دول أخرى مثل الهند، وبنغلادش، والصين. وبذلك، فإن السماح لللاجئين بالعمل يزيد من حجم الانتاج المحلي ويسمح للاقتصاد بالتنوع.

يمكن للعمال السوريين مزاحمة اللبنانيين على الخدمات التي لا يمكن استيرادها من الخارج، كخدمة الValet Parking، وتوصيل البضائع، والخدمة في المطاعم والمقاهي، والبناء، والتمريض، والعمل في المصانع. لكن هذا لا يعني أن بطالة اللبنانيين سترتفع، بل على العكس، إن قبول السوريين براتب ادنى يخفض من كلفة الانتاج بهذه المؤسسات ما يسمح لها من خفض اسعارها من أجل جذب زبائن أكثر، أو توسيع أعمالها وفتح فروع أخرى. في كلا الحالتين، تتحسن الخدمة على المواطن اللبناني بسبب إنخفاض الأسعار وزيادة الخيارات. كما أن زيادة الزبائن وتوسيع الأعمال يؤدي الى زيادة الوظائف. وحتى لو قرر أرباب العمل عدم توسيع اعمالهم وعدم تخفيض الأسعار، فإن الربحية المرتفعة التي يجنوها بسبب تدني سعر الكلفة، تدفع بمستثمرين جدد لدخول القطاع من أجل تحقيق ربحية مماثلة، ما يخلق وظائف إضافية.
يؤدي ارتفاع الطلب على الانتاج اللبناني وانخفاض كلفة الانتاج الى زيادة في الإستثمارات ما يخلق فرص عمل جديدة. هذا نظرياً، لكن فعلياً، تحرم السياسات المعتمدة اليوم، المواطن اللبناني من الاستفادة من النزوح السوري، ولا يبقى له إلا تحمل الأعباء، وهذه نبذة عن تلك السياسات:

1- تمنع الحكومة اللبنانية النازحين السوريين من العمل بحرية في لبنان وترسل مفتشين الى المؤسسات اللبنانية لقمع من تسوله نفسه توظيف سوري عن غير وجه حق. رغم أن نية الحكومة هي بالحقيقة حماية العمال اللبنانيين، إلا أن نتيجة هذه السياسة سيئة على الاقتصاد الوطني وعلى العمال اللبنانيين، إذ أنها : (أ) تمنع السوريون من مزاولة الاعمال التي لا تتم بلبنان أصلاً، و(ب) تمنع تخفيض الأسعار وخلق فرص عمل جديدة، و(ج) تمنع زيادة الاستثمارات في لبنان.

2- حتى لو سمحت الحكومة اللبنانية للنازحين السوريين بالعمل، فإن المستوى المرتفع للحد الأدنى للاجور يمنع توظيفهم و بالتالي يمنع خفض كلفة الانتاج المحلي.

3- حتى لو علقت الحكومة مبدأ الحد الادنى للاجور في القطاع الخاص، فإن ذلك يؤدي الى استبدال العمالة اللبنانية بالعمالة السورية من دون خلق فرص عمل جديدة، لأن لبنان بلد تصعب فيه ريادة الاعمال. يحتل لبنان اليوم المرتبة 139 من حيث سهولة القيام بالاعمال، بتراجع 15 مرتبة عن ال 2016. فعلى سبيل المثال يحتاج المستثمر في لبنان الى انجاز 18 معاملة تستغرق 244 يوماً للبناء، مقارنةً ب 49 يوماً في الامارات و63 يوماً في الأردن. حتى في الضفة الغربية وقطاع غزة، يحتاج المستثمر الى 108 أيام!

فلنتذكر ‏مثلاً النسيج ‏الصناعي الكبير التي كانت تتمتع به سوريا قبل الأزمة. ‏مع اندلاع الحرب، تفكك هذا النسيج ونزح العمال وعائلاتهم إلى الدول المجاورة ومن ضمنها لبنان. لكن رؤوس الأموال السورية فضلت الذهاب إلى بلاد الأخرى كتركيا، والأردن، ومصر، علماً أن الأردن ‏اغلق حدوده مع سوريا، وأن كلفة ‏نقل البضائع من مصر الى السوق السورية مرتفعة نسبياً. كان من الأجدى ‏لهؤلاء نقل مصانعهم إلى لبنان بسبب قرب المسافة من السوق السورية، ووجود عدد كبير من المستهلكين السوريين في لبنان. لكن ذلك لم يحصل لأن لبنان يمنع توظيف يد عاملة ‏بكلفة معقولة (‏مشابهة لما كان يدفعه هؤلاء المستثمرون في سوريا) ولصعوبة القيام بالأعمال في لبنان. لو كان ‏توظيف السوريين في لبنان سهل ولا يحتاج للخضوع للحد الأدنى للأجور، ولو كانت الاستثمارات في لبنان لا تحتاج إلى عدد كبير من المعاملات، وقت طويل، وبخشيش على مختلف المستويات، لتضاعف نمو لبنان وانخفضة البطالة وتنوع الاقتصاد، ولكانت مداخيل النازحين ارتفعت وزادت مصاريفهم ‏‏وساهموا ‏بإنعاش الحركة الاقتصادية. ‏هذه القيود والتعقيدات لم تحرم لبنان من ‏رؤوس الاموال السورية فقط، بل سببت أيضاً هجرة رؤوس الأموال اللبنانية الى ‏بلاد أخرى مثل مصر ونيجيريا، ومنعت تدفق للاستثمارات الأجنبية الى لبنان. هذا ما يشرح البطالة رغم توفر ‏يد عاملة ‏كفوءة ‏محليا.

أما بالنسبة لكلفة النزوح على البنى التحتية، مثل جمع النفايات واستعمال الطرقات العامة وتأمين مياه الشفة والكهرباء والصرف الصحي، فهي مشكلة ادارة عامة للقطاع وليست مشكلة نزوح. عندما يزيد الطلب على سلعة أو خدمة معينة يزيد ربح المؤسسة التي تقدمها، إلا إذا كان من يطلب هذه الخدمة أو السلعة لا يدفع ثمنها. فقط بهذه الحالة، يؤدي ارتفاع الطلب الى تفاقم الخسارة بدل زيادة الربح، وهذا ما يجري فعلياً مع الخدمات التي ذكرناها. فمثلاً، بدل من أن يدفع ثمن جمع النفايات المستفيد من الخدمة، أي المنازل والمؤسسات، كل حسب كمية النفايات التي يريد التخلص منها، تتولى الدولة اللبنانية تقرير من يجمع النفايات وتدفع له أجرة من خزينة الدولة. بالتالي عندما ازدادت كلفة جمع النفايات 40% خلال 5 سنوات ازدادت هذه الأعباء على خزينة الدولة. لو كانت كلفة ‏جمع النفايات، ومياه الشفة، والكهرباء، والصرف الصحي، يتحملها المستفيد من الخدمة بدل دافع الضرائب، لكان من السهل جدا علي الجهات الداعمة دفع الفاتورة نيابة عن النازحين. وبالتالي يجب البدء بالتفكير بحلول تريح كاهل الخزينة من كلفة الخدمات العامة وتحميلها للمستفيد من هذه الخدمات. وقد طرح سابقاً المعهد اللبناني لدراسات السوق حل لمشكلة الكهرباء في لبنان ‏بكلفة 0 ليرة على الخزينة من هذا المنطلق.

لقد حان الوقت لمعالجة أزمة النازحين في لبنان بشكل عقلاني بعيداً عن المشاعر المتضامنة منها والمعادية، ومن منطق اقتصادي لا يسعى حصراً الى استجداء المساعدات والدعم من الدول الأخرى، بل يهدف الى اجراء الاصلاحات الداخلية التي طال انتظارها. الاصلاحات السهلة تنص على تسهيل القيام بالأعمال، عبر تحسين ترتيب لبنان الذي يقبع حالياً في المرتبة 139 عالمياً من حيث سهولة القيام بالأعمال. إن نجاح العهد الجديد والحكومة الحالية باستقطاب الاستثمارات يرتبط بشكل وثيق بهذا المقياس. والجدير بالذكر أن التقدم بهذا المجال مرتبط بخفض عدد المعاملات، وتسريعها، وهو موضوع سهل التنفيذ نسبياً. فهل ستسعى الدولة الى تسهيل القيام بالأعمال في لبنان؟ أم أن بيروقراطية الدولة ستبتلع كل امل باستقطاب الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة ؟ أما الاصلاحات الأصعب فتنص على تحرير سوق العمل من القيود المفروضة عليه والانتقال من منهجية تحميل دافع الضرائب اللبناني كلفة الخدمات العامة الى تحميل الكلفة للمستفيد من هذه الخدمات. تحتاج هذه الاصلاحات الصعبة الى اجماع وطني متوفر اليوم عبر وجود عهد جامع وحكومة وحدة وطنية. فهل سينتهز لبنان هذه الفرصة ويجير الإجماع الوطني لمصلحة اللبنانيين؟

إضغط هنا لقراءة المقال على الموقع جنوبية