لفترة طويلة استخدم اللبناني لفظ “الطابور” للإشارة إلى مؤامرة ما تتهدد الانتظام العام للبلاد، فإذا بالطابور يتحول إلى جزء من يوميات عامة الناس، طابور البنزين، والغاز، والبيض، ومحال تحويل الأموال، وغير ذلك من الطوابير، والخوف كل الخوف من تباشير طابور الخبز، والدواء مع قرب رفع الدعم وشح الموارد في البلاد.
المواطن في المتاهة
“الدواء مقطوع”، و”خراطيم محطات البنزين مرفوعة”، و”البيض المدعوم غير متوفر”. جمل تختصر يوميات المواطن اللبناني الذي أصبح ينتهز الفرص للعثور على علبة مهدئ أعصاب من هنا، أو محطة بنزين تبيع الوقود لملء خزانه. وما يزيد من عتب المواطن على دولته، الصور وتسجيلات الفيديو بتهريب شحنات البنزين والمازوت إلى الجارة سوريا.
ومع اقتراب الشتاء، ازداد الخوف من فصل بارد ومحدود الموارد، يحاول البعض التنقل بين المؤسسات من أجل تحويل ما يملكه من مدخرات نقدية إلى مواد تموينية تقيه الصقيع والجوع. ويفشل أكثر الأحيان في الوصول إلى المواد المدعومة التي أصبحت تباع في السوق السوداء.
طابور المحطات
تحول طابور الانتظار أمام محطات الوقود إلى مشهد يومي، إذ تصل فترة الانتظار أحياناً إلى ساعات، قبل بلوغ الخرطوم لملء الخزان بمبلغ يتراوح بين 10 و15 ألف ليرة (6.62 دولار أميركي و 9.92 دولار)، أي نحو نصف خزان الوقود “تانك”؛ 10 لترات بنزين. يقول زياد إنه اهتدى، أخيراً، إلى محطة وقود عاملة في طرابلس، وعلى طول الطريق من جبيل إلى طرابلس لم يجد محطة تملأ الخزانات. هذا الأمر أعاد إلى ذاكرته أيام الحرب، عندما كان يقف الناس في الطابور للحصول على الخبز، وكانت السيارات بمثابة الخردة في المواقف لعدم توافر البنزين.
قصة أخرى يرويها هاني، فقد احتاج ليومين من أجل تعبئة خزان سيارته، ويعتبر أن “الوقوف بالصف أصبح من أساسيات حياتنا، الأمر ليس معيباً”، إلا أن المرفوض إذلال المواطن لاستجداء بنزين بعشرة آلاف ليرة (6.62 دولار). ويضيف أن هذا الصف بدأ يطبع حياة اللبناني، من محال السلع “السوبر ماركت” إلى النقط الأمنية والحفريات، ويعتقد أن الفرج يأتي من خلال الحصول على فيزا في بلد آخر.
حاول البعض تجاوز التقنين الذي فرضته المحطات العاملة، فالوقوف بالطابور موجع، والحر شديد، لذلك يعمد البعض إلى دفع إكرامية (البخشيش) للعامل على المحطة لـ”تفويل” السيارة. فيما يستعين آخرون بالغالونات من أجل تخزين كميات إضافية متى سنحت الفرصة.
الدعم هو المسؤول
من وجهة نظر اقتصادية، تتصل الطوابير بالسياسات الاقتصادية الخطأ القائمة على الدعم وسياسة التسعير، التي تبيع السلع أقل من كلفتها الحقيقية. يؤدي ذلك حسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مرديني إلى إقبال متزايد على السلع المتوافرة، فنحن أمام مجموعة من الناس تريد سلعة، ويمكنها دفع ثمنها، إلا أن التاجر يقننها أو لا يبيعها للزبون.
تفاقمت المشكلة عند الحديث عن رفع الدعم ووقفه، لأن المستهلك بدأ يستعجل الحصول على سلع رخيصة قبل غلائها. وبدأت هذه الموجة مع حديث حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن قرب وقف الدعم، لأن الاحتياطي بلغ مرحلة خطيرة ولم يعد بالإمكان استمرارها أكثر من شهرين. ويعتقد مارديني، أن هناك مصلحة للتجار بعدم البيع حالياً، ويفضل كثيرون تخزين البضائع من أجل بيعها لاحقاً بثمن أعلى، أو بيعها بالسوق السوداء بثمن مضاعف كما يحصل مع الدجاج مثلاً.
التهريب يفاقم الأزمة
لا يتوقف سبب الطوابير على السلع المدعومة، وإنما هناك عوامل أخرى يأتي في مقدمها التهريب المنظم إلى سوريا. يشير مارديني إلى تفضيل التاجر بيع المازوت في سوريا بسعر مضاعف عن لبنان، بعد أن يكون قد استفاد من الدولار المدعوم لشراء المادة النفطية بسعر منخفض، ويحاول الاستفادة من فارق الربح. وينشط التهريب في المناطق الحدودية لناحية عكار في شمال لبنان، ومنطقة البقاع الشمالي عبر معابر منتظمة، الأمر الذي يؤدي إلى شح المادة عن المحطات. ويتحدث أهالي المناطق الحدودية عن انقطاع الوقود عن المحطات، فيما يجري إخراجه من البلاد عبر شاحنات كبيرة، أو يباع على حافة الطرقات بغالونات الماء، حيث يستغل البائع حاجة المواطن.
السبيل لمعالجة المشكل
يعتقد باتريك مارديني، أنه يجب وقف سياسة الدعم لأنها تؤدي إلى شح المواد الأساسية في لبنان، ويشير “إذا توقف الدعم، ترتفع أسعار المواد الاستهلاكية، إلا إنها لن تنقطع ويمكن لمن يحتاجها الوصول إليها”. ويلفت إلى “أنه لم يعد لدينا احتياطي للدعم”، لذلك فإن وقفه مسألة وقت، لأن مصرف لبنان بدأ عملية التقنين، ويقوم بتأخير فتح الاعتمادات للبضائع المستوردة من الخارج، بهدف إبطاء نزيف الدولار.
يؤدي رفع الدعم عن السلع إلى ارتفاع أسعارها، حيث هناك تخوف من بلوغ ثمن خزان الوقود 70 ألف ليرة (46.31 دولار أميركي)، وربطة الخبز 5 آلاف ليرة لبنانية (3.31 دولار)، وهكذا دواليك. حيث تتضاعف أسعار السلع، ويزيد العبء على المواطن العادي الذي يقبض الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة لبناني (446.53 دولار)، أو حتى أقل، فلا يصبح أجره يساوي عشر تنكات بنزين.
يقترح مارديني ترشيد الدعم، لأن الدعم الحالي لا يستفيد منه الفئة الأفقر من الشعب اللبناني، فنسبة 75 في المئة من الفقراء لا تمتلك سيارة، ولا تستفيد من دعم البنزين. ويقترح إعطاء منح مالية للفقراء بدلاً من دعم السلع على غرار بطاقة الدعم التي خصصتها الأمم المتحدة لدعم اللاجئين السوريين.
سقف صرف الدولار
يعيد باتريك مارديني سبب الغلاء الفاحش إلى تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي. وعليه، لا يمكن حل المشكلة بالدعم الذي تمتصه الثقوب السوداء، ولا بد من وضع حد لسعر صرف الليرة مقابل الدولار. تؤدي تقوية الليرة إلى مضاعفة الأسعار باستمرار. ومن ثم وقف عملية إفقار الشعب اللبناني.
ويعود سبب تدهور سعر الصرف إلى استمرار الدولة اللبنانية بطباعة كميات هائلة من الليرات، وضخها في السوق لتمويل النفقات بعد أن أقفلت أبواب الدائنين بوجهها. ففي الماضي، كانت تستدين لتمويل نفقاتها، أما الآن فلجأت إلى طباعة العملة، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور سعر الصرف.
يبدأ الحل بوقف وتخفيف المصروفات، ويقترح مارديني بدء الإصلاحات فوراً من أجل إعادة الثقة والحصول على الدعم الخارجي. وتبدأ الإصلاحات بترشيد القطاع العام وتطهيره من الموظفين المدعومين غير المنتجين، ومعالجة الهدر في قطاع الكهرباء. ويعتبر خيار الإصلاح بمثابة انتحار للطبقة السياسية، لذلك تأخرت كثيراً في تجرع السم، وطوال سنوات اعتمدت إستراتيجية تأجيل المشكلة، فإذا بها تنفجر بوجه سائر قطاعات المجتمع اللبناني الهش.
ستترجم الأزمة مباشرة على سعر صرف الدولار، وربما سيكون لبنان أمام نموذج قاتم، وسيزداد مستوى الفقر والبطالة، وتسريح عمال، وإقفال مؤسسات.
الخلاصة، يعيش اللبناني كماً هائلاً من الإهانة والإذلال في بلاده. ولم تنجح حتى الساعة محاولات الانعتاق من قيد العبودية الذي فرضته الزبائنية السياسية والمحاصصة الطائفية في لبنان.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع Independent Arabia