*تفشّي التهرّب الضريبي وتبييض الأموال يُهدّدان تصنيف لبنان في حزيران
*تأخير هيكلة المصارف جريمة متمادية ستظهر عواقبها الوخيمة أكثر فأكثر
*«الكاش إيكونومي» يضرب مصداقية أرقام الناتج وميزان المدفوعات وغيرهما
*شركات توسّع هوامش أرباحها لكنها لا تتوسّع إستثمارياً بغياب القروض
في حين تعتمد معظم دول العالم لا سيما الأوروبية والخليجية والولايات المتحدة الأميركية في عمليات الدفع على نظم الاقتصاد الرقمي واستخدام البطاقات الائتمانية ووسائل الدفع الإلكترونية لتسهيل التبادلات، تشهد قلّة من الدول التي واجهت أزمات إقتصادية وموجات تضخّم بمستويات عالية، اعتماداً على النقد في مدفوعاتها وتبادلاتها، مثل المغرب ومصر وكينيا ونيجيريا والفيليبين.
ولبنان انضمّ الى قائمة تلك الدول التي يعتمد اقتصادها على النقد في التداول رغم أنه كان يسعى ليلحق قبل نهاية العام 2019 بركب الدول المتطورة التي تعتمد نظام الـcashless في تداولاتها النقدية. فالأزمة الإقتصادية ودخول المصارف في مرحلة «الموت السريري» بعد حجز الودائع وعدم أداء الخدمات المنوطة بها مثل منح التسليفات والقروض والتحويل الى الخارج، أفقدت اللبنانيين الثقة فعمدوا الى تخزين النقد في الأدراج وفي المنازل والخزنات.
هذا الواقع رسّخ أكثر فأكثر في العامين الماضيين اعتماد الإقتصاد اللبناني على الـ»كاش» أو النقد، فقدّر البنك الدولي اقتصاد الكاش في لبنان بقيمة 10 مليارات دولار أي ما يعادل نصف الناتج المحلي البالغ نحو 20 مليار دولار. فما هي منافع ومساوئ تلك الظاهرة؟ وهل من حلول لوضع حدّ لها؟
خلاف الإتجاه العالمي
يقول الأستاذ الجامعي والاستشاري في الشؤون المالية والإدارية مروان القطب لـ»نداء الوطن»: «في وقتنا المعاصر لا يوجد دولة في العالم تعتمد بشكل كامل على الإقتصاد النقدي القائم على تسوية المدفوعات عن طريق النقد أو الـ»كاش». بل على العكس، إن معظم دول العالم تعتمد في نظامها النقدي على تسوية المدفوعات عن طريق الوسائل الإلكترونية والتحويلات والبطاقات الإلكترونية بعيداً عن النقد. وأكثر من ذلك هناك تراجع كبير جداً في استخدام الـ»كاش» أو النقد لأن هذا الاستعمال يحمل الكثير من المساوئ والمخاطر».
ويعتبر القطب أن تفشّي اقتصاد الـ»كاش» سببه المباشر قلّة الثقة بالنظام المصرفي، وفرض سقوف على السحوبات التي تم وضعها أثناء الأزمة فاهتزّت الثقة بالنظام المصرفي اللبناني وتمّ وقف التعامل مع القطاع بشكل كبير. وباتت كل المدفوعات حتى تلك المحصّلة من الدولة مثل الضرائب والرسوم تحصّل نقداً، فضلاً عن المؤسسات التربوية والجامعات التي تسعى الى تحصيل المدفوعات «كاش».
مساوئ كثيرة
إستناداً الى القطب فإن المساوئ هي التالية:
– تسوية نظام المدفوعات بات يتمّ عن طريق النقد، لا سيما تسديد الرسوم الجمركية المستحقة، ما يكبّد الشاري عبء تأمين ملايين الليرات نقداً كأن يكون رسماً جمركياً على سيارة وان يكون الرسم مليار ليرة على سبيل المثال وهو مبلغ كبير يكبّد المترتّب عليه مواجهة مخاطر عدة مثل عبء النقل وحفظ الـ»كاش» واحتمالات التزوير والتوضيب والعدّ واحتمالية السرقة، وهي مخاطر التعامل بالنقد.
– بما أن تسوية الرسوم والضرائب هي عن طريق النقد، تشهد عملية التحصيل بطئاً في التسديد وتستغرق العملية وقتاً ما يعرقل إنسيابية التدفق النقدي الى داخل الخزينة العامة. باعتبار أن نظام التحويلات الذي كان معتمداً سابقاً كان يسهّل الدفع.
– اقتصاد الـ»كاش» يعطّل الحكومة الإلكترونية وتسوية المدفوعات من خلال أنظمة الكترونية، علماً أن الحكومة الإلكترونية تؤدي طبعاً الى الضبط وتقليص الكلفة وحوكمة الإدارة العامة.
– يؤخّر النظام النقدي او «اقتصاد الكاش»، إعادة نهوض القطاع المصرفي من كبوته بدرجة كبيرة. فهو يعيق استعادة القطاع المصرفي نشاطه وعافيته. فإيداع الأموال في المصرف يكوّن لدى البنك كتلة نقدية من خلالها يمكن استخدام البطاقات والقيام بالتحويلات، حتى أن المصرف يمكن من خلالها القيام بالإقراض الذي يخلق النقد، ما يعني تعزيز الإستثمار الداخلي وتفعيل النشاط الإقتصادي داخل الإقتصاد اللبناني.
– يحمل الكثير من مخاطر السرقة والحفظ والتزوير وتفشّي تبييض الأموال. وهنا المنظمات الدولية المعنية بتبييض الأموال تقول: اذا استمر لبنان باعتماد النهج الحالي، سيتغيّر تصنيف لبنان الى اللّون الرمادي. وبذلك يتمّ اعتبار أن المخاطر المتعلقة بتبييض الأموال في لبنان عالية جداً، ما يدلّ على أن التعامل الدولي مع لبنان خصوصاً بالنسبة الى التحويلات الدولية يصير صعباً، وفتح الإعتمادات المستندية تصبح معقّدة أكثر وتتطلب إجراءات أطول ومستندات أكثر وكلفة أكبر».
الحلول المطلوبة
في ظلّ الوضع الراهن، يقول القطب «إن الحلول المتاحة في لبنان لتفشّي الـ»كاش إيكونومي» هي استعادة القطاع المصرفي ثقة المواطن والمودع به. عندها تكون بداية الخروج من الأزمة. والثقة تتحقّق من خلال معالجة مسألتين: الأولى، وضع آلية واضحة وشفافة وشاملة لمعالجة مصير ودائع المواطنين. والثانية، إعادة هيكلة قطاع المصارف.
فلبنان لا يحتاج الى هذا العدد من المصارف لذلك لا بدّ من إعادة هيكلة مصارف تبقى قوية، أما الضعيفة فلا بدّ أن يتمّ استحواذها من مصارف قوية او إجراء عمليات دمج لمصارف عدة في سبيل إنشاء كيان جديد قوي، قادر على الإستجابة لمتطلبات الإقتصاد الوطني.
في الوقت الراهن هناك كتلة نقدية كبيرة موجودة في المنازل وخزائن التجار تقدّر بعشرة مليارات دولار وهذه حالة تراكمية مع مرور الوقت من 2019 حتى اليوم. رغم ان بعض الإجراءات التي تم الحديث عنها سمحت بتكوين حسابات جديدة بالـ»فريش» ويمكن استخدام البطاقات. ورغم ذلك يشير القطب الى أن تلك الكتلة النقدية بالـ»فريش» لم تتجاوز المليار دولار وهي غير كافية لخلق نظام مدفوعات الكتروني وتنشيط نظام المدفوعات والخروج من الإقتصاد النقدي. لذلك، في حال كان لدينا 10 مليارات دولار في الإقتصاد النقدي وتمّ تعزيز الثقة بالنظام المصرفي، فهذه الكتلة ستنتقل الى القطاع المصرفي خصوصا النظيفىة منها».
إنطلاقاً من كل تلك المعطيات يشير القطب الى أنه «كلما تأخّرنا في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وحلّ مسألة ردّ الودائع، يعني ذلك أننا نؤخّر الخروج من النظام النقدي ما يشكّل عبئاً كبيراً على الإقتصاد اللبناني. وبالتالي لا بد من أن يكون هناك حسم وفضّ للتناقض والتعارض بين القوى السياسية والقوى الإقتصادية لتصبح المصلحة العليا الإقتصادية النقدية والمصرفية للبنان هي الأساس وهي المعتمدة».
مرآة واقع الأزمة
يعتبر الخبير الإقتصادي والمصرفي د. نسيب غبريل ان واقع إقتصاد الـ»كاش» الذي نعيشه يعكس:
– واقع الأزمة وعدم تطبيق أي إصلاح من خلال بدء اعتماد برنامج إصلاحي وعدم اتخاذ إجراءات للخروج من الأزمة.
– عدم قدرة المصارف على التسليف للشركات والمؤسسات والأفراد وعدم قدرة القطاع الخاص على الإنتظار حتى تبدأ الدولة العملية الإصلاحية وتشريع قوانين والبدء بتطبيق إجراءات.
– توسّع الـ»كاش ايكونومي» بسبب إرادة القطاع الخاص الإستمرار في أداء عمله، وهذا الإصرار أدى الى دخول القطاع الخاص في مرحلة انتعاش. وفي العام 2023 شهدنا حركة ملفتة في القطاع السياحي والقطاعات الرديفة التي تستفيد من السياحة، ولكن في القطاعات الأخرى مثل تكنولوجيا المعلومات والزراعة والصناعة وخدمات أخرى فإن الإقتصاد يعكس الحالة الموجودة وعدم الإجماع على برنامج إصلاحي وبالتالي عدم تطبيق أي إجراءات أو إقرار أي قوانين للخروج من الأزمة من خلال استعادة الثقة».
ورغم اعتبار غبريل أنه «ليس للإقتصاد النقدي أية إفادة»، عاد ولفت الى أن «منافعه تعود على الشركات التي لا تستدين من المصارف، ولا يترتب عليها تسديد ديون شهرية أو فائدة على القروض، لا يوجد دفعات مؤجلة للزبائن أو مقسطة، وهذا في مصلحة شركات ترتفع ارباحها».
تداعيات سلبية
مقابل ذلك، هناك عيوب تشوب هذا النظام في تداعياته السلبية على الشركات:
اولاً، تضطر الشركات الى تشغيل أموالها الذاتية، في حين أنها اذا استدانت من المصارف تؤدي عملها بأموال سواها، السلوك الذي لطالما اعتادت عليه الشركات الخاصة.
ثانياً، من مساوئ نظام اقتصاد الـ»كاش»، التشجيع على التهرّب الضريبي وعدم التصريح عن كامل ايرادات وأرباح الشركات.
ثالثاً، يعطي الإقتصاد النقدي المجال لإجراء عمليات غير قانونية.
رابعاً، بما أنه لدى الشركات مبالغ محدودة يمكن تشغيلها وتغطية أعبائها التشغيلية، يحدّ ذلك من إمكانية الشركات بالتوسع والإستثمار وبدء مشاريع جديدة وخلق فرص عمل». وبرأي غبريل إن «الإقتصاد النقدي يفوق نسبة 50% من إجمالي الناتج المحلي».
المعالجة بالإصلاحات
ولا يختلف رأي غبريل عن القطب في الحلول المطروحة للخروج من التداولات بالنقد. فقال غبريل إن وضع حدّ للإقتصاد النقدي يتطلب:
– إصلاحات ومكافحة التهرّب الضريبي والجمركي والتهريب عبر الحدود بالإتجاهين وتحسين الجباية. مع مساءلة ومحاسبة ومكافحة التهرّب الضريبي والمتهربين أو المتلاعبين بالبيانات المالية.
– استعادة القطاع المصرفي دوره الطبيعي ومهمته الأساسية وهي تسليف وتمويل القطاع الخاص.
ويضيف: إن «الإجراءات الأساسية لاستعادة الثقة ليست تقنية فقط، بل تبدأ بالحوكمة والإدارة الرشيدة في القطاع العام أي تطبيق الدستور والإلتزام بالمهل الدستورية وفصل السلطات واحترام إستقلالية القضاء ودعم إمكانياته وتطبيق القوانين على مختلف الصعد والمساءلة والمحاسبة. ثم تأتي الإجراءات التقنية التي تساهم باستعادة قطاع المصارف التسليف الى القطاع الخاص وبالتالي تقليص حجم الإقتصاد النقدي. فاستعادة الثقة هي الأساس ولكن يتطلب ذلك إرادة سياسية جامعة.
اقتصاد الـ”كاش”= فوضى
بدورها اعتبرت استاذة الاقتصاد والباحثة الجامعية د. نيكول بلّوز بايكر أن «اقتصاد الـ»كاش» يعني الفوضى، اذ تنتفي الخطوط لتسديد الضرائب فيتم التهرّب منها». لافتة الى أنه «عندما لا تمرّ المعاملات من خلال المصارف عندها لا يمكن إجراء إحصاءات ومعرفة حجم الناتج المحلي ولا الحصول على اي أرقام، لذلك في الإقتصاد النقدي كل الأرقام غير دقيقة، وسألت كيف يدرك البنك الدولي أن حجم الإقتصاد النقدي في لبنان يعادل نصف الناتج المحلّي؟
ثم عادت وأضافت: «لا يمكن أن يكون هناك ميزان مدفوعات يحدّد حجم الأموال التي دخلت الى البلد والتي خرجت وتأثير ذلك على سعر الصرف، عندما لا تمرّ التعاملات مع الخارج عبر المصارف».
وشدّدت على أن التهريب والتهرّب الضريبي وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لا يمكن تحديدها في الإقتصاد النقدي. اذ يتغلغل في البلد الفساد ونفتقد الى كيفية تتبّع مصدر تلك الأموال ولا يستطيع احد اعتماد مبدأ المحاسبة. تبقى المنفعة الوحيدة للـ»أوادم» الذين لم يدفعوا مستحقاتهم للدولة التي سرقتهم !.