صيرفة، تلك العلامة النقدية التي ابتدعها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة من خارج أقسام مصرف لبنان بديلاً من سوق الصرف الذي استمر منذ بدء الأزمة مكبّلاً بالسعر الرسمي لصرف الدولار (من 1500 ليرة حتى 15 ألف ليرة)، “صيرفة” هذه، قدّمت خدمات عدة لمصرف لبنان واللبنانيين على حد سواء، لكنها لم تسلم من الانتقادات والاتهامات بالفساد وصرف النفوذ طوراً من المخاصمين لسياسات رياض سلامة، وطوراً آخر من خبراء اقتصاد ومال وأعمال يعارضون منطق تدخل المركزي في السوق.في الدور وأهداف المنشأ والجدوى النقدية التي ابتغاها مصرف لبنان من المنصة، كان الهدف الرئيسي والمركزي منها ضبط التفلت العشوائي المروّع لسعر صرف الدولار، وخلق آليّة مكنت مصرف لبنان من الإمساك بالسوق والتحكم نسبياً بحركته، على نحو أدّى الى تحوّلها صمام أمان نسبياً يعتمد عليه في تثبيت استقرار سعر الصرف وإغراق السوق بالعملة الصعبة لبناء التوازن بين العرض والطلب على العملة الصعبة. كما فتحت باب الدعم لموظفي القطاع العام والمتقاعدين والأسلاك العسكرية للحصول عند بداية تأسيسها على دعم وفير نسبياً لرواتبهم وأجورهم من خلال الفارق بين سعر الصرف الذي اعتمدته وسعر صرف الدولار في السوق الموازية بلغ في بعض الأحيان 40% من السعر.
الإيجابيات التي سبقت، لا تلغي أن صيرفة تحوّلت الى هاجس نفسي ونقدي يتتبّع أخبار أسعارها أو إمكانية استمرارها من عدمه اللبنانيون وأهل المصارف والأعمال والموظفون، حتى صار الكلام عن توقفها أو إيقافها أو تقليص وظيفتها أو تطويرها عبر مؤسسات دولية خبراً يهز الأسواق ويثير الخوف من فلتان الدولار وعودة شبح سعر “المليون” الذي روّج له البعض. لكن صيرفة اليوم متوقفة، و”مخترعها” أصبح في بيته والحاكم بالانابة يؤكد ويصر ويتصلب بأن دولاراً واحداً لن يُصرف دون قوانين وتشريعات تحمي قانونية استخدام الاحتياطي، وجميع هذه الأخبار تنتشر في الإعلام وعلى “طرق النفس” والدولار الى “نزول” وليس الى ارتفاع. كيف؟؟!! ما السبب؟ لمَ الدولار مخطوفة أنفاسه اليوم؟ ولمَ الأسواق مستقرة وحركة المضاربين شبه معدومة؟ ما الموجبات العلمية اقتصادياً التي جعلت الدولار يصل الى 89 ألف وربما أقل؟
الخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي عزا الأسباب الى الأجواء الإيجابية التي رافقت تسلّم منصوري، بعدما كان الخوف من ذهاب الحاكم واستقالة النواب الأربعة مسيطراً على السوق النقدية. بيد أن عدم الاستقالة وتسلّم الدكتور منصوري بدعم خارجي من الولايات المتحدة الأميركية وداخلي من القوى السياسية كافة، أرسى معايير اطمئنان للسوق، خصوصاً أن ما طرحه من إصلاحات يتفق أيضاً مع مطالب صندوق النقد والمجتمع الدولي.
الى ذلك فإن حجم الكتلة النقدية اليوم، انخفض إلى نحو 61 تريليون ليرة، بعدما سُحب جزء كبير منها في نهاية عهد رياض سلامة، بما يشير نقدياً إلى أن الكتلة النقدية أصبحت مسيطراً عليها نوعاً ما، وفق جباعي الذي يشير الى عوامل أخرى أسهمت في استقرار سعر الصرف.
من هذه العوامل أن الموسم السياحي في لبنان لا يزال زاهراً، وكمّية الدولارات التي تُضخ في السوق كافية لاستخدامها في عمليات الاستيراد. كل هذه العوامل برأي جباعي خلقت استقراراً نسبياً لسعر الصرف، مستبعداً في الوقت عينه أن يكون مبلغ الـ600 مليون دولار الذي صُرف من احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية في الأسبوعين الأخيرين من شهر تموز له علاقة باستقرار السوق، لكونه صُرف قبل تسلّم منصوري. وأكد أن “مصرف لبنان يمتلك أيضاً مبلغاً من الدولار من خارج الاحتياطي الإلزامي، يستطيع استخدامه عند الحاجة، وقد يكون استخدامه ضرورياً في المرحلة المقبلة إذا ارتفع سعر صرف الدولار”.
في مطلق الأحوال، يرى جباعي أن هذا الاستقرار مرتبط بالمرحلة المقبلة، إن كان من الناحية السياسية، وما سيحصل حيال موضوع انتخاب رئيس للجمهورية كما بالمناخ السياسي عموماً، أو من الناحية الاقتصادية، وخصوصاً حيال تلقف الأسواق توقف صيرفة مع انتهاء موسم الصيف. يضاف الى ذلك انتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد تحويل رواتب القطاع العام إلى الليرة اللبنانية بما سيزيد الضغط على سعر الصرف ودفعه الى الارتفاع. ويستنتج جباعي أن الاستقرار الحالي هو نتيجة التوافق الذي حصل لتسليم منصوري، فيما استدامته مرتبطة بمدى تعاون الحكومة والمجلس النيابي مع ما يطلبه الحاكم ونوابه.
ويخلص الى القول إن “هذه الفترة مرحلية ونسبية، وتالياً فإن ادّخار الدولار لا يزال أفضل من الليرة في انتظار الاستقرار الدائم سياسياً، اقتصادياً، مالياً ونقدياً”.
وبرأي جباعي “إن المصرف المركزي يقوم بواجبه القانوني والتقني، وأي خلل قد يحصل في سعر الصرف ستتحمّل مسؤوليته الحكومة والقوى السياسية، بسبب عدم قدرتهم على تحسين الموازنة من جهة، وإقرار التشريعات من جهة أخرى، إذ لا يمكن لدولة أن تنتج شهرياً 20 مليون دولار وهي بحاجة إلى مئتي مليون دولار. هذا هو الجوهر الأساسي في المرحلة المقبلة، وفق جباعي، فإذا تحسّنت الموازنة وارتبطت مع السياسة النقدية في تماهٍ واضح، يمكن حينها التحدث عن استقرار فعلي لسعر صرف الدولار. أمّا إن لم تتحسّن الموازنة، فلن يستطيع المصرف المركزي وحده أن يحافظ فترة طويلة على استقرار سعر الصرف”.
مصادر مصرفية لاحظت أنه رغم توقف صيرفة، لم يرتفع سعر الدولار في السوق السوداء لأسباب عدة منها أنه “في بداية شهر تموز وصلت الكتلة النقدية الى 90 ألف مليار ليرة بينما انخفضت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الى 61 ألف مليار ليرة في نهاية تموز أي نحو الثلث.
وتالياً فإن امتصاص ثلث الكتلة النقدية بالعملة اللبنانية من السوق الذي قام به الحاكم السابق جعل إمكانية القيام بمضاربة على سعر الصرف محدودة جداً”.
وأشارت الى أنه “في شهر تموز وحده جرى ضخ أكثر من 500 مليون دولار في السوق من مصرف لبنان سواء عبر دفع رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي النقدي، ودعم الأدوية أو لدفع كافة مستحقات صيرفة الكبيرة في تموز (قبل توقفها بداية آب الجاري)، وتالياً فإن لدى السوق فائضاً بالدولار الأميركي نتيجة ذلك”.
وللسياحة والمغتربين دور كبير أيضاً برأي المصادر المصرفية، إذ يعمد هؤلاء الى صرف ملايين الدولارات في السوق اللبنانية، بما يجعل الدولار متوفراً لدى التجار، وتالياً لا حاجة لهم لشراء دولار من السوق، بدليل أن الطلب على الدولار انخفض في شهر تموز، ويتوقع أن يستمر ذلك في شهر آب.
ويضاف الى ذلك، توقف مصرف لبنان عن شراء الدولار من السوق منذ منتصف تموز “بعدما كان سابقاً يشتري الدولار لتمويل القطاع العام وصيرفة في محاولة منه لعدم المس بالاحتياطي الإلزامي في حينه”. وإلى التشدد في ضبط المضاربين قضائياً وأمنياً، تشير المصادر عينها الى أن “الانتقال السلس في الحاكمية وتسلم النائب الأول صلاحيات الحاكم وفقاً لقانون النقد والتسليف، وعدم السير بموضوع الحارس القضائي وما كان لذلك من أثر سلبي على السوق، أسهم أيضاً في استقرار سعر صرف الدولار”.
من جهته يشير المستشار في اتحاد المصارف العربية بهيج الخطيب الى سببين لاستقرار سعر الصرف بعد توقف منصّة صيرفة، أولهما استمرار التدفقات المالية من المغتربين والسياح كافة. وإن كان بعض هذه الأموال يُخزّن فإن القسم الأكبر يُصرف لتلبية الحاجات الاستهلاكيّة.
كما أنه لا يوجد إلا القليل من الاستثمار. أما السبب الثاني، فيتعلق بالجهات السياسية التي ينتمي إليها نائب الحاكم الأول لمصرف لبنان، التي لن تسمح بارتفاع سعر صرف الدولار. ومن الممكن جداً أن توعز للصرافين المنتمين إليها بضخ الدولار في السوق، وإن كانوا لا يحققون أرباحاً كبيرة، بيد أنهم سيعوّضون ما فاتهم من أرباح تدريجاً.
توازياً يسأل الخطيب عما يمكن أن تخفيه الفترة المقبلة من تطوّرات قد تطرأ على الاقتصاد اللبناني؟ وهل سيتوقف العمل فعلياً في منصة صيرفة؟ يجزم الخطيب بأنه “إذا توقف العمل نهائياً بالمنصة فسنشهد حكماً ارتفاعاً لسعر صرف الدولار. أمّا إذا جرى العمل بالمنصة ضمن الأسس التقليدية والكلاسيكية المعروفة عالمياً، فسيكون للبنك المركزي دور مهم أو ما يسمّى “Market Maker” أي ما يعني “صانع السوق الأول في البلاد”. وتاليا سيكون له دور أساسي في بيع الدولار الأميركي وشرائه انطلاقاً مما يراه مناسباً للاقتصاد، على أن يُعلن عن أرقام أسعار التدخل فوراً وبشكل متحرّك لا بشكل ثابت كما كان سابقاً.
أما إن لم يسيروا في هذا النظام، فلن يبقى أمامهم خيار سوى الاستمرار بـ”منصة رياض سلامة” وفق ما يقول الخطيب، التي برأيه كانت عثرة للاقتصاد، وتكبّد الدولة والمركزي خسائر فادحة، ولا تؤدي إلا إلى إفادة بعض الفئات الطفيلية، وموظفي القطاع العام بنسب بسيطة.