قد يستغرب كثير من اللبنانيين حين يعلمون أن في لبنان مصنعين لتجميع الكمبيوتر، و120 مصنعاً وورشة لصناعة الآلات والمعدات على أنواعها، و8 مصانع للآلات والمعدات الطبية، و95 مصنعاً للمعدات الكهربائية، و400 مصنع وورشة للمنتجات المعدنية والكهربائية. يضاف إليها حرفيون لصناعة الآلات الموسيقية (الكمان والبزق)، بحسب إحصائيات وزارة الصناعة التي جرت في تموز العام 2019. مصدر الإستغراب ليس من باب التشكيك بقدرة اللبنانيين على العمل والابداع، بل بسبب سيطرة شعار «لبنان بلد الخدمات والسياحة»على الاقتصاد اللبناني، الذي رُفع منذ تسعينات القرن الماضي. علما أن لبنان قبل الحرب (بحسب الخبير الاحصائي عباس طفيلي)، كان يضم 20 ألف مصنع وورشة لمختلف الصناعات، لينخفض العدد إلى 5800 مصنع بعد الحرب.
الضربة المؤلمة في 2000
الضربة المؤلمة للصناعة في لبنان بكل قطاعاتها، كانت في العام 2000، مع صدور قرار رفع التعرفة الجمركية على استيراد البضائع، ما أدى إلى إفلاس تدريجي لمئات المصانع، التي لم تعد قادرة على منافسة البضائع الآتية من الصين وبلدان شرق آسيا. اما اليوم وبعد 4 سنوات على إندلاع الازمة، وبعدما استطاع الصناعيون الصمود، حان الوقت للتفكير جدياً بما إذا كانت القطاعات الصناعية مؤهلة لتكون قيمة مضافة للاقتصاد اللبناني، وتتماهى مع التطورات والمتطلبات الحاصلة، ليس على الصعيد العالمي ، بل الاهم على الصعيد الإقليمي المحيط بنا، لأنها أسواق طبيعية لمنتجاتنا كما كان الأمر قبل الحرب الاهلية.
ويمكن الجزم بأن قطاع الآلات والمعدات بأنشطته المختلفة، يُعد مجالاً حيوياً لتنمية الاقتصاد اللبناني، بعد مرحلة الإنهيار التي نعيشها نظراً إلى قدرته على إنشاء روابط متنوّعة مع مختلف القطاعات الاقتصادية. فهو يمدّها بالسلع الرأسمالية ويسهم في إنتاج بضائع مصنّعة ذات قيمة مضافة مرتفعة وقابلة للتصدير. كما أنّ لدى هذا القطاع القدرة، على توليد فرص العمل اللائق وتعزيز سبل العيش.
ميزة هذا القطاع أيضا في أنه يشتمل على مستوى عالٍ نسبيّاً من التكنولوجيا، التي تسمح بنسبة من البحث والتطوير والابداع في الوقت نفسه.
قطاع يستحق التوقف عنده للبحث عن قدرته في أن يكون جزءاً من رؤية صناعية – انتاجية قادمة، تعالج نهجاً سياسياً اقتصادياً مُنحرفاً، مبنياً على إقتصاد الخدمات والسياحة والمصارف فقط، مما يساهم في حماية المجتمع اللبناني ويمنع تبديده. بمعنى آخر يجوز السؤال هل ما ينتجه هذا القطاع ، يؤشر إلى ضرورة التحول إلى نموذج تنموي- اقتصادي- صناعي، يقوم على المهارات والإنتاج والتصدير؟
مصانع آلات بمواصفات عالمية
الجواب على هذا الطرح، يأتي من خلال تجارب الصناعيين أنفسهم الذين استطاعوا النجاة بحرفتهم، في أيام الحرب، وخلال مرحلة إقتصاد الخدمات، وفي مرحلة الانهيار التي نعيشها. إذ يشرح رئيس مجلس إدارة مصنع «تكنيكا» لصناعة الآلات والروبوت طوني حداد لـ»نداء الوطن» أن «مصنعه ينتج آلات ومعدات تدخل في صناعة الأغذية وكيفية حفظها، من خلال إستخدام مواد أولية مستوردة من الخارج لا سيما الحديد. وما يجري في لبنان هو إعادة تصنيع وخراطة لهذه الانواع من الحديد، لإنتاج ماكينات وآلات على أنواعها، وهي أقرب إلى صناعة تحويلية».
يضيف: «نحن كمعمل للآلات نصدر إلى 48 بلداً في العالم. والسوق اللبناني لا يشكل أكثر من 1 بالمئة من سوقنا لأن كل الآلات التي ننتجها تملك طاقة إنتاجية عالية تضاهي بجودتها الآلات الموجودة في الاسواق الاوروبية، لكن بأسعار أقل وبموقع جغرافي قادر على الوصول إلى الزبائن في كل أنحاء العالم. وهذا ما يجعلنا منافسين حقيقيين للعديد من المصانع في الدول المحيطة، ويفتح الاسواق أمامنا».
يشدد حداد على أن «كل اليد العاملة الموجودة في مصنعه لبنانية، وتتقاضى مستحقاتها بالدولار الفريش لأن العقود موقعة بالدولار، ولأن لدينا سوقاً خارجياً يمكّننا من دفع الرواتب بالفريش». مشيراً إلى أن الأزمة أثرت بشكل كبير على عملهم، فهم يتعرضون لضغوطات لا تحتمل، «هذا أثر على سمعتنا وبات همّنا تأمين المواد التشغيلية مثل الكهرباء والمازوت والبنزين والاتصالات والإستشفاء للعمال لدينا».
ويؤكد أن «ما ساعدهم على الصمود هو وجود سوق خارجي، أي الدفع بالدولار، كما حرصنا على إنشاء مصانع لنا في بولندا وكندا لكي نكون قريبين من أسواقنا، ولكي نتخطى الحواجز التي يتعرض لها المصدّر والصناعي اللبناني بسبب المواقف السياسية ( مثل ازمة عدم إستقبال السعودية للإنتاج اللبناني)».
التنافس حاد مع الدول المحيطة
يشرح رئيس مجلس إدارة مصنع «Manutech «كريم كامل لـ»نداء الوطن» أن «صناعة الآلات والمعدات تتخطى صفة «صناعة تحويلية»، لأن فيها الكثير من الابداع والحرفية، وفي الوقت نفسه ترتكز على مواد أولية تستورد من الخارج». لافتا إلى أنها «تشبه كل الصناعات التي تنتجها البلدان التي حولنا، لا سيما سوريا وتركيا ومصر وتشكل منافسة للبنان». ويوضح أن «الصناعيين اللبنانيين لا يمكنهم مجاراة انتاج سوريا للآلات الصغيرة مثل العجانات والخبازات، فهم مهرة ولديهم مصانع تتقن صناعة الآلات التي لها علاقة بالغذاء وتحويله».
يضيف: «الاتراك والمصريون ينافسوننا في صناعة الآلات والماكينات الاكبر حجماً. لكن ميزة الصناعة اللبنانية لهذه الآلات هي في جودتها ومتانتها، مقارنة مع الانتاج المصري والتركي، ونحن أكثر حرفية وتطوراً وننتج نوعية ممتازة «. مشدداً على «أننا ننافس تركيا ومصر في صناعة الادوات الكهربائية مثل البرادات والغسالات وأفران الغاز، أما الآلات التي لها علاقة بالتغليف وتصنيع الاكل، فالانتاج السوري أكثر إتقاناً، ولم يستطع المصنّع اللبناني أن يكسر هذه المنافسة لأنهم مهرة».
ويلفت إلى أن «اليد العاملة في مصنعه هي لبنانية وسورية. لكن تصميم الآلات يقع على عاتق المهندسين اللبنانيين ويتولى التنفيذ حرفيون سوريون. ومهارة مهندسينا في التصميم هي التي تعطي إنتاجنا قيمة مضافة في الاسواق. علماً أن صناعة الآلات هي صناعة متكاملة ومترابطة مع حرفيين وتجار آخرين، والازمة الحاصلة أدت إلى هجرة بين هؤلاء الحرفيين والتجار مما زاد من الصعوبات التي تواجهنا».
ويوضح أن «قطاع صناعة الآلات والمعدات يصدّر إلى بلدان أفريقيا والعراق وأوروبا والبلاد العربية ما عدا السعودية بسبب الحظر المفروض علينا. بالاضافة إلى أننا تأثرنا سلباً بالأزمة بسبب الكلفة التشغيلية التي زادت بشكل كبير، فضلا عن أزمة المصارف التي زادت من أعبائنا».
صناعة منتشرة في 100 دولة
بناءً على هذه التجارب الصناعية الواعدة، يعتبر وزير الصناعة جورج بوشكيان لـ»نداء الوطن» أن «صناعة الآلات والمعدات بالرغم من كل الصعوبات، قطاع يسجل خطوات متطورة خاصة في السنوات الثلاث الاخيرة، وحصلت فيه إستثمارات صناعية كبيرة». لافتاً إلى أنه «مواكبة لهذا التطور أسست الوزارة قطاع Artificial intelligence الذي يختص بالبرمجة وsoftware ، لأن هذا القطاع هو المستقبل وكل المعدات الصناعية باتت تعمل وفقا لـ software«.
يضيف: «بالنسبة للـhardware هناك مصانع في لبنان تصنّع القوالب التي تحتاجها الآلات، وكل المعدات التي تتطلبها مصانع الالبان والاجبان والتغليف باتت تصنّع في لبنان. وأعتقد أن هذا القطاع سيتطور أكثر، خصوصا بعد فرض ضريبة الـ10 بالمئة على استيراد المنتجات التي تصنع في لبنان، وهذه الضريبة ستكون محفزاً كبيراً للإستثمارات الصناعية».
يرى بوشكيان «أننا بحاجة إلى رؤية جديدة للصناعة اللبنانية، الدولة كانت مع القطاع الصناعي، لكن المشكلة كانت في السياسة الريعية وإحتكاراتها، التي منعت تطور الصناعة. وما يحصل اليوم هو مواجهة بين القطاع الصناعي وبين هذا النهج الريعي». مؤكداً أن «الوزارة بالتعاون مع جمعية الصناعيين، مستمرتان في إعلاء شأن الصناعة، علماً أن كل القوى السياسية باتت تعترف بأن الصناعة (بعد التطورات التي حصلت خلال سنوات الانهيار)، هي ضمان للإقتصاد اللبناني».
ويشدد على أن «الصناعة اللبنانية تتمتع بجودة مهمة بأسعار تنافسية، والقطاع الصناعي يشغّل 240 الف عامل، وكل معمل يشغل معه حوالي 16 قطاعا. وهذا هو الوجه الاقتصادي الصحيح والسليم للبنان والذي يجب ان ندعمه، وأن نحب صناعتنا المنتشرة في 100 دولة في العالم».