بعد اعلان الحكومة اللبنانية «تعليق» دفع سندات اليوروبوندز، تمّ التداول لفترة وجيزة بموضوع خطير جداً متمثل بما يعرف بـ»CDS (Credit Default Swap)» ثمّ تلاشىت التعليقات، كأن شيئاً لم يكن.
سنحاول ايضاح معنى اليوروبوندز والـCDS وكيف يمكن ان يكون قد طبّق على تلك السندات.
تعريف اليوروبوند
عرّف اليوروبوند على انه اداة دين بعملة اجنبية، تلجأ اليها الحكومات لتمويل مشاريعها بفائدة جيدة للمستثمرين مقابل مخاطر مقبولة. واسباب اصدارها تكون عادة لمتطلبات الانفاق الحكومي و/او تمويل عجز الموازنة و/او سداد ديون مستحقة و/او تمويل مشاريع انمائية…
وتكون سندات اليوروبند الكترونية يتمّ التداول بها عبر انظمة مقاصة مثل «كليرستريم «او «يوروكليير»
تعريف الـ»سي دي أس»
في التعريف المبسّط للـ»CDS (Credit Default Swap)»: هو عقد بين شخصين لفترة محددة، يضمن بموجبه حامل سند دين او سندات خزينة، خسارة محتملة ناتجة عن تخلّف او تمنع المدين او مصدّر السندات عن الدفع او قيامه باعادة جدولة الديون.
يمكن تشبيه عقد الـCDS بعقد تأمين على دين لضمان حالة عدم ايفاء المدين لالتزاماته، لكنه يختلف عن التأمين على دين بنواح عديدة، لا طائل من بحثها راهناً ( نذكر على سبيل المثال ان بائعي الـCDS لا يخضعون لنظام محدد لناحية رأس المال كشركات التأمين، وهم غير ملزمون بابقاء احتياطي عملات معين عكس شركات التأمين والمصارف).
ما يعني انه اداة مالية مشتقّة (Derivative) تتبع قرض معين، لمحاولة ضمان مخاطر عدم سداد سندات صادرة عن شركة تجارية او دولة معينة لقاء تسديد الدائن للضامن فائدة (منفعة) دورية محددة.
ان معظم مانحي الـCDS هم من المصارف او المؤسسات المالية الضخمة او شركات تابعة لها.
ضمانة ضد التخلف عن الدفع
للوهلة الاولى، يمكن اعتبار عقد الـ CDS (Credit Default Swap) كضمانة لحاملي سندات الخزينة او للسندات التجارية تجاه الدائنين عند التخلّف عن الدفع، فهي تنقل المخاطر من الدائن الى شخص ثالث (الشركة المانحة للـCDS) دون نقل ملكية السندات ودون تجيير، وتنشئ وعداً بالتعويض عند عدم الدفع.
هنا يقتضي الوقوف عند «event of default» اي حالات التخلّف وتعريفها، والتي يبنى عليها لتحديد ما اذا استحق ّ التعويض وقيمته.
سنة 1999 وضعت الـ»ISDA» (International Swaps and Derivatives Association) الاتفاق الاول الذي سمي بالـCDS حيث حدد ثلاث حالات «credit events» اساسية، تجعل الضمانة تستحق وهي الافلاس- عدم الدفع – اعادة الهيكلة. وهذه الحالات تعتبر اوضاعاً يخسر المستثمر في حال حدوثها استثماراته، ما يبرر توقيع عقد تأمين لضمان اية خسارة بالموضوع ونقل المخاطر على عاتق بائع الـCDS.
أما حالة جدولة الديون فخلقت جدلاً واسعاً لناحية عدم امكانية اعتبارها خسارة للاستثمار المؤمن عليه، بالتالي عدم استحقاق الضمانة. وهناك من اعتبرها «soft credit event» حيث خسارة المؤمن ليست اكيدة او قابلة للجدل، فضلاً عن ان اعادة الجدولة يمكن لها ان تكون من دون تأثير على الاستحقاقات اللاحقة عكس حالة التخلّف عن الدفع او الافلاس التي تجعل كافة الدفعات مستحقة.
ازاء هذا الوضع وضعت الـ»ISDA» (International Swaps and Derivatives Association) اربعة اتفاقات اطار لشمول الحالات الخلافية.
لها مخاطر… ويرتفع سعرها
لكن مخاطرها كثيرة خاصة لناحية عدم ملاءة بائع الـ CDS كما حصل اثناء الازمة الاقتصادية العالمية سنة 2008،حيث خسرت شركة AGI 99.2 مليار دولار اميركي، 30 مليار دولار منها كانت نتيجة عقود الـCDS.
وعقود الـCDS يتمّ التداول بها في البورصات والاسواق المالية بحيث يرتفع سعرها كلّما زادت مخاطر عدم الدفع وتنخفض قيمتها كلّما خفّت تلك المخاطر، (في لبنان كان سعر الـCDS في كانون الثاني من عام 2020 يبلغ 2285 دولاراً أميركياً ليقفز بتاريخ 12/3/2020 الى 25.000 دولار اثر اعلان الدولة اللبنانية «تعليق» دفع اليوروبوند، اي ان من اشترى CDS في كانون الثاني من سنة 2020 استوفى اكثر من عشرة اضعاف استثماره).
من هنا خطورتها ومفاعيلها المدمرة للاقتصاد، فضلاً عن امكانية التأثير لافتعال حالات عدم الايفاء، او عدم ايفاء الشركة المانحة للـCDS في ما لو كانت المبالغ المشمولة بها ضخمة تفوق قدرة الشركة المانحة للضمانة المذكورة، اضافة الى مخاطر اخرى نتناولها في بحث لاحق.
في القانون اللبناني
وبالعودة الى الوضع اللبناني، يتبين ان عقود الـCDS هي من العقود الـ sui generis اي انها مبتكرة لا تنطبق عليها التصنيفات القانونية للعقود المسماة، وتخضع لحرّية التعاقد التي لا يحدّها سوى مبدأ حسن النية في التنفيذ ومبادئ الاستقامة التجارية وقواعد الانتظام العام.
فالقانون اللبناني قد اعطى اهمية كبيرة لحسن النية في تنفيذ العقود (221 م.ع) ومنع التعسف في استعمال الحق (124 م.ع) وفرضت المادة 3 من قانون التجارة على القاضي عند انتفاء النص ان يسترشد بمقتضيات الانصاف والاستقامة التجارية.
كما رتّب القانون اللبناني (قانون موجبات وعقود- قانون العقوبات – قانون حماية المستهلك…) مسؤولية مدنية وجزائية عن اعمال الغش والخداع التي يقدم عليها الاشخاص. وشددت العقوبة في ما لو كان فاعل الغش او الخداع ممتهناً مهنة معينة وقام بغش المستهلكين.
وأوجب قانون النقد والتسليف بمادته 156 على المصارف الالتزام بقواعد تؤمن صيانة حقوق المودعين في الأموال التي تتلقاها.
توقف لبنان عن الدفع
إثر اعلان الحكومة اللبنانية بتاريخ 16/2/2020 «تعليق» دفع 1.2 مليار دولار اميركي قيمة سندات يوروبوند مستحقة، اصبحت الدولة اللبنانية في موضع المتخلّف او الممتنع عن الدفع.
وفضلاً عن واقعة بيع المصارف اللبنانية لليوروبوند سنة 2019 لغاية آذار 2020 لما يقارب الـ4.7 مليار دولار من اليوروبوند لمضاربين ومستثمرين اجانب… حصل ارتفاع بقيمة الـCDS على اليوروبوند من 2285 تقريباً الى ما يفوق الـ 25.000 دولار، وذلك من دون تدخل من مصرف لبنان الذي اعلن حاكمه على شاشة الـLBCI ان مصرف لبنان بصدد اجراء تحقيق لمعرفة ما اذا كانت هنالك اية معلومات مسرّبة متعلّقة بقرار تعليق الدفع (الامر الذي لم يعرف لغاية تاريخه).
ماذا فعلت المصارف؟
يضاف الى ذلك، لم يأت احد على ذكر عمليات الـCDS التي يمكن ان تكون المصارف اللبنانية قد لجأت اليها بالنظر الى كونها محترفة في المجال المالي، ولكونها قامت بتسويق اليوروبوند لعملائها في ظلّ معرفتها بالوضع المالي المتعثر للدولة اللبنانية.
علماً انه نشرت عدّة تقارير تفيد سداد 400.000.000 دأ (اربعماية مليون دولار اميركي) CDS تبعاً لتعليق الدولة اللبنانية تسديد دفعات اليوروبوند في 16/2/2019، فأين هي هذه المبالغ؟ هل تمّ سداد مبالغ اخرى؟
على القضاء التدخل
فالموضوع شائك ومتشعّب، يوجب تدخل القضاء (المعطّل قسراً) ومباشرة تحقيق ومراسلة القضاء الاجنبي المعني ايضاحاً لعمليات الـCDS التي تمّت و/او تمّ شراؤها قبل اعلان توقف الدولة اللبنانية عن دفع سندات اليوروبوند، والاشخاص الذين قاموا بشرائها او الاستثمار بها مباشرة او بواسطة وسطاء او اشخاص مستعارين. ومعرفة مصير الاموال المتأتية عنها، لتعلّق الموضوع بمصير اقتصاد بلد وشعب بأكمله، احقاقاً للحق و اظهاراً للحقيقة وانصافاً للمودعين الذين كانوا ضحية ممارسات محترفة بهدف هدر حقوقهم.
فاذا تبين للقضاء ان تسويق اليوروبوند الى عملاء المصارف قد تمّ بينما تقوم الاخيرة بالمراهنة على عدم سداد اليوروبوند عند استحقاقه، فالامر يندرج في اطار جرم الاحتيال والافلاس التقصيري والاحتيالي لخلقهم مشروعاً وهمياً، يهدف الى ابتزاز المستثمرين اللبنانيين مع علمهم المسبق باستحالة اعادة الاموال او بالاحرى بجدية المخاطر حول عدم سدادها.
واذا تبين ان استفادة السياسيين وعائلاتهم واعضاء مجالس ادارة المصارف وعائلاتهم من هذا النوع من الادوات المالية، فهذا يعتبر من جرائم استغلال وافشاء المعلومات التي حظّرها قانون التجارة وقانون انشاء الاسواق المالية، وقانون حظر الاستغلال الشخصي للمعلومات المميزة في التعامل بالاسواق المالية، وقرارات مصرف لبنان، كما يمكن ان يندرج في جرائم صرف النفوذ وغيرها من مواد قانون العقوبات، ويشكل خرقاً لموجبات المصارف التي تعتبر كوكلاء مأجورين لعملائهم (تمييز مدني،غرفة 4، رقم 53، تاريخ 16/12/2008 الرئيس حدثي، المستشاران حرّوق وخليل – بنك الاعتماد اللبناني/حداد -صادر في التمييز،القرارات المدنية 2008، ج1،ص:584).
دور نقابة المحامين
نشدد في الخاتمة على دور نقابة المحامين التي انشأت لجنة تعمل على حماية حقوق المودعين، وتلاحق من عرّض حقوقهم اهمالاً او تقصيراً او قصداً للضياع، ونقترح اقرار قانون على طراز القانون البلجيكي لسنة 2015، الذي يحمي الدولة ممن اشترى سندات سيادية بسعر سوقي اقلّ بكثير من قيمتها الاسمية. حيث اعتبر الدائن حائزاً على افضلية غير شرعية ما يمنعه من ملاحقة الدولة المدينة، ويتفّق مع القانون اللبناني للاثراء غير المشروع ومبدأ التعسف باستعمال الحق ومنع من اساء العمل من الاستفادة منه.