ما يعانيه لبنان يَصعُب تحديده ووصفه بعبارات لائقة لذلك نترك توصيف الوضع إلى تقرير حديث للبنك الدولي وآخر لخبير مستقل زار لبنان بتكليف من الأمم المتحدة.
في نيسان 2022 ذكر البنك الدولي في تقريره أن «لبنان غارق في ازمة إقتصادية ومالية هي من أسوأ الأزمات التي عرفها العالم وهو ذاهب إلى إنتخابات نيابية منتظرة في ظل فشل في نظام الحكم» – ها هي الإنتخابات أصبحت وراءنا و»الفشل في نظام الحكم» لا يزال ماثلاً أمامنا ويتجسّد كل يوم على كافة مستويات الحياة في هذا المعتقل الذي كان اسمه «لبنان». فالحملات الترويجية والتجميلية التي هدفها تشجيع المغتربين والسيّاح للقدوم خلال عطلة الصيف لا يمكنها حتى أن تخدش طبقة القرف واليأس السميك الذي تكوّن عند الشعب اللبناني.
وفي شهر أيار من سنة 2022 قال أوليفييه دي شوتير المقرر الخاص المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان المكلّف من قبل الأمم المتحدة في تقريره عن الوضع في لبنان: «تمّ دمج الإفلات من العقاب والفساد وعدم المساواة الهيكلية في نظام سياسي وإقتصادي فاسد مصمم لإخفاق من هم في القاع»؛ وأضاف: «كانت المؤسسة السياسية على علم بالكارثة التي تلوح في الأفق لسنوات لكنها لم تفعل شيئاً يذكر لتلافيها. حتى أن الأفراد المرتبطين جيداً قاموا بنقل أموالهم إلى خارج البلاد، بفضل الفراغ القانوني الذي سمح بتدفق رأس المال إلى خارج البلاد، لذلك يجب البحث عن الحقيقة والمساءلة من باب الدفاع عن حقوق الإنسان».
ويقول أيضاً في مكان آخر: «إن هذه الأزمة الاقتصادية التي هي من صنع الإنسان في لبنان بدأت في العام 2019، واليوم يقف البلد على شفير الهاوية ليصبح دولة فاشلة». ويضيف: «أدت سياسات البنك المركزي على وجه الخصوص إلى تدهور العملة، وتدمير الاقتصاد، والقضاء على مدخرات العمر لكثير من الناس، وإغراق السكان في براثن الفقر، وحسب وضع البنك المركزي فالدولة اللبنانية قامت بمخالفة صريحة للقانون الدولي لحقوق الإنسان. إن قيادة الشعب اللبناني بعيدة تماماً عن الواقع، بما في ذلك اليأس الذي خلقوه بتدمير حياة الناس. لبنان أيضاً من أكثر دول العالم انعداماً للمساواة، لكن القيادة فيه تبدو غيرمدركة لذلك في أحسن الأحوال، ومرتاحة له في أسوأ الأحوال»، ونكتفي بالوصف كما ورد في تقرير أوليفييه دي شوتير.
1 – إفلاس مالي
لا شك إن الإفلاس المالي هو الجانب الأكثر بروزاً من الأزمة اللبنانية الحاليّة، وهو كما ذكرت التقارير من «صنع البشر» وأكاد أجزم أنه كان متعمّداً ومخططاً له منذ سنين عديدة. فإذا كان المواطن العادي المأخوذ بهمومه الحياتية قد صدّق السردية الرسمية القائمة على خرافات من نوع «المعجزة اللبنانية» و»الليرة بخير» وغيرها من أساليب التخدير، لكن القائمين على هذا النظام كانوا يعرفون تماماً ما صنعت أيديهم. إن قلب ومحرّك النموذج المالي اللبناني كان قائماً على استقطاب الدولارات «الحقيقية» من تحويلات المغتربين والقروض الخارجية ومصادر أخرى ثم تبديلها بثروات مشبوهة تُجنى بالليرة وتحوّل إلى الخارج.
أضف إلى ذلك أن قسماً من هذه الدولارات كان يستعمل للإستيراد المفرط الذي أدّى إلى خلل في الميزان التجاري على مدى السنوات الأخيرة، كما انه ضرب الزراعة والصناعة الوطنية التي فقدت القدرة على التنافس وحتى الإستمرار. أمّا من حيث الشكل فما حصل هو مخطط بونزي مموّه تديره الدولة وترفده المصارف بالأموال، أما نقطة إختلافه عن مخططات البونزي العادية فهي أن الذين نجوا من الفخ ليسوا فقط الذين خرجوا من البونزي أولاً وقبل إنكشافه، بل الذين كانت لديهم السلطة أو الواسطة لإجبار المصارف على تحويل ثرواتهم قبل وبعد إنفجار الأزمة. فانفجر الإفلاس المالي الكبيرعلى فجوة ضخمة بمئات المليارات وعلى قطاع مصرفي مفلس وفاقد للثقة، بعد عقود من عومه في بحر من الأساطير والأموال التي لم يكن لديه القدرة على توظيفها او إدارتها، مع العلم أن أرقاماً كبيرة جداً من موجودات هذا القطاع هي أموال مجهولة المصدر بانتظار إلغاء السرية المصرفية والتدقيق الجنائي.
2 – إفلاس إقتصادي
وضعَ الإقتصاد اللبناني الإنتاجية والتنافسية الحقيقية جانباً منذ سنوات فمن البديهي أن الإنتاج لا قدرة له على التعايش طويلاً مع إقتصاد الريع والفوائد ولا مع إقتصاد التبييض. فعند إنفجار الأزمة وجد الإقتصاد اللبناني نفسه مفلساً فاقداً للمؤهلات ومتأخّراً عشرات السنوات عن إقتصادات المنطقة. فلا هو قادر على مجاراة تركيا ولا مصر ولا دول الخليج التي أوصلت إقتصاداتها إلى المراتب العالمية ناهيك عن التطور التكنولوجي والإقتصادي في كيان العدو. وكما يقول العبقري اللبناني زياد الرحباني: «بشو بعد بدّك تطوشن؟… بالبرغل؟».
3 – إفلاس سياسي
لعل الإفلاس السياسي هو مصدر الإفلاسات الأخرى، فلو اعتدلت السياسة في لبنان وعملت لمصلحة البلد والناس عوض المصالح الخاصّة لكان انعكس ذلك مباشرةً إزدهاراً إقتصادياً وثباتاً مالياً. وأثبتت الممارسات أن النظام السياسي اللبناني الذي تم تركيبه في اتفاق الطائف منذ أكثر من ثلاثين عاماً غير قادرعلى إفراز حياة سياسية منتظمة وحديثة تسمح للبلد بالتطور والتقدم. فهذا النظام مفخخ بالمكامن الطائفية وأوراق الفيتو التي تتضخّم بالممارسة وتتحوّل من نظام لإدارة البلد إلى منظومة لكربجة الحياة السياسية برمتها. وما الحلحلات الجانبية التي تحصل في هذا النظام إلّا اتفاقات بين أطراف على تقاسم السلطة ومن ورائها المنافع والوزارات والمشاريع، وهنا بالتحديد إحدى الأسباب الأساسية لإنهيار النموذج تحت ضغط التحاصص والتقاسم دون مراعاة لمصالح الدولة المركزية أو قدرتها على الإستمرار. بكلام آخر، إنه نظام سياسي قائم على تقاسم الدولة وتشليعها تحت ذريعة المحافظة على حقوق الطوائف إلى درجة وصول البلد إلى التعطيل السياسي المقصود والإفلاس الإقتصادي، بينما تتجمع الثروة والمنافع لدى زعماء الطوائف وجماعاتهم المباشرة.
4 – إفلاس أخلاقي
تاريخ الإفلاسات عندنا قديم وعميق ويرجع في أصله إلى انعدام الشعور الوطني الجامع وسيطرة عقلية إستعمال الدولة في سبيل الطائفة ككيان سياسي وليس بالمعنى الديني. فلا يبدو أن الرادع الأخلاقي كان كافياً لدى أي من المجموعات السياسية الناشطة في لبنان لكي تعمل للمصلحة العامة وللبلد والناس، عوض أن تتنافس للحصول على أكبر قدر ممكن من المنافع من دولة يعتبرها الجميع «ليست لهم». فالفلسفة السائدة للتعامل مع الدولة هي الأخذ دون عطاء. فالأفراد والجماعات يعتبرون أن الدولة هي الحيّز العام الذي يجب الأفادة منه بأكبر قدر ممكن دون القيام بأي واجب أو مجهود. فنريد كهرباء الدولة دون دفع الفواتير، ونريد المياه من الدولة دون تركيب اشتراكات نظامية، ونريد الوظيفة من الدولة دون القيام بالواجبات لا بل إستعمال هذه الوظيفة الرسمية كباب للإستنفاع وفرض الخوات على المواطنين الآخرين وابتزازهم في تعاملاتهم مع الإدارات الرسميّة. هذا الإفلاس الأخلاقي يمتد إلى جميع أوجه التعامل مع الدولة وإلى جميع فئات المجتمع، والأخطر في هذا النوع من الفساد إنه لا يتوقف عند المنافع الصغيرة والبسيطة التي ذكرناها بل يتعدّاها إلى الأمور الأكبر والأخطر والتي تتعلق بإدارة شؤون البلاد والناس وتقرير مستقبلها.
5 – إفلاس فكري
بينما كان المجهود الفكري اللّبناني يتركّز على ابتكار أساليب لسرقة الدولة والحصول على أكبر مكاسب مقارنة بالفئات الأخرى في الوطن كانت هذه «الدولة» تتلاشى وتضعف وتتحلل. فبعد ثلاثين سنة من إنتهاء الحرب الأهلية لم تتمكن هذه التركيبة التحاصصية من تأمين الكهرباء ولا المياه ولا النقل المشترك الحديث ولا التعليم الرسمي للجميع، ولا الضمان الصحّي للجميع ولا غيرها من الأمور التي تعتبر بديهية في العام 2022.
وهذا كلّه يسجل في خانة الإفلاس الفكري وليس المادي فقط والأمثال كثيرة وماثلة أمامنا. أليس من باب الإفلاس الفكري أن تهدر هذه الدولة عشرات المليارات على تمويل كهرباء غير موجودة بينما المبالغ المهدورة كانت كافية لبناء معامل كهرباء حديثة لجميع دول الشرق الأوسط. أليس إفلاساً فكرياً أن تهدر الدولة عشرات المليارات من أموال الودائع المحجوزة على دعم أكثر من 300 صنف من المواد الإستهلاكية لنعود ونستجدي باصات مستعملة وطحين وأدوية لحاجات البلد؟
الإفلاس المتعدّد الأبعاد
الغرق في الإفلاس المتعدّد الأبعاد في لبنان أصبح يقارب حد الهلوسة والجنون وانقلب السحر على الساحر وبدأ البلد بما ومن فيه رحلة السقوط إلى الهاوية. «فأنجح» قطاع مصرفي في المنطقة تحوّل إلى مجموعة أشباح مفلسة وفاقدة للثقة تحتجز ودائع اللبنانيين، و»أفضل حاكم بنك مركزي في العالم» أصبح الآن ملاحق في الداخل والخارج بمجموعة من الجرائم المالية، وسويسرا الشرق أصبح يحلم بلقب «صومال المتوسط» ولا يناله.
وللدلالة على بلوغ البلد أسوأ درجات الإفلاس كان الإصرار على تكليف رئيس حكومة ملياردير إعترف بنفسه بأنه أخرج ثروته من لبنان قبل إنفجار الأزمة وتوكيله تنفيذ خطّة حكومته ومستشاريه، لشطب 60 مليار دولار من ودائع اللبنانيين بطريقة عشوائية ودون محاسبة للمرتكبين ولا توزيع للمسؤوليات، فيبدو أن تعدد أوجه الإفلاس له تأثيرات عميقة على الصحّة النفسية. فلبنان واللبنانيون أصبحوا يعانون ايضاً من حالة من الجنون المتعدّد الأبعاد.