هوّل الجميع وحذّر من المسّ بالاحتياطي الإلزامي تحت أيّ ذريعة، لأنّ أمواله تخصّ المودعين في المصارف اللبنانية، وكأنّ ما تمّ صرفه من عام ونصف العام على الدعم، وقد ناهز الثمانية مليارات دولار لغاية اليوم، وفق مرصد المصادر الاقتصادية، لم يُسحب من جيوب هؤلاء في خدمة التهريب وجشع التجّار والمحتكرين والفاسدين.
في آذار الماضي، كشف وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني عن أنّ سياسة الدعم تكلِّف الدولة اللبنانية نحو ستّة مليارات دولار أميركي سنويّاً، نصفها مخصَّص للمحروقات والكهرباء، والنصف الآخر يذهب لدعم الدواء والقمح والسلّة الغذائية، مشيراً إلى أنّ “هذه التكلفة المرتفعة أدَّت إلى استنزاف احتياطات العملة الأجنبية في #مصرف لبنان، التي تقدر بستّة عشر مليار دولار.
وفي وقت سابق، حمّلت جمعية المصارف مصرف لبنان مسؤولية المسّ بالاحتياطي الإلزامي والخضوع للضغوطات التي تمارسها عليه السلطات السياسية خلافًا لمنطق وروحية قانون النقد والتسليف، حيث غاية الاحتياطي الإلزامي تنحصر في حاجات القطاع المصرفيّ.
كما أكّدت الجمعيّة أنّ تخفيض معدّل الاحتياطي الإلزامي بالعملات يوجب على مصرف لبنان إعادة المبالغ المحرّرة للمودعين أصحاب الحقّ بها. فليس جائزًا استعمال المبالغ المحرّرة مؤخرًا جرّاء تخفيض المعدّل من 15% إلى 14% لأغراض الدعم.
والأسبوع الفائت، طالب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مجلس النواب بإقرار قانون يسمح بتمويل الاستيراد.
كلّ هذه المواقف غير مطمئنة للمودعين الذين حُجزت أموالهم في المصارف بدون أيّ مسوّغ قانوني.
ولكنّ الأسئلة التي قد تأتي ببعض الأجوبة المفيدة تشمل:
– هل تمّ استعمال هذا الاحتياطي الإلزامي بالكامل؟ ماذا بقي منه؟
– كيف تمّت مخالفة قانون النقد والتسليف من قبل مصرف لبنان الذي يتمّ التسلّح به في اتخاذ القرارات وإصدار التعاميم ؟
تقول أستاذة القانون المتخصّصة بالشأن المصرفي، الدكتورة سابين الكيك أنّه بعيدًا عن المزايدات السياسية وتصويبًا للمغالطات المصرفية، لا بدّ من أن يتمّ تحديد المفهوم القانوني لهذا المصطلح. فالاحتياطي الإلزامي جزء من السيولة المصرفية ويحتفظ به المصرف المركزي محددًا وحده هذه النسبة بما لا يتجاوز سقف الـ١٥% من الودائع لأجل والـ٢٥% من الودائع تحت الطلب.
هذا الاحتياطي خصّص بموجب المادة ٧٦ من قانون النقد والتسليف للإبقاء في يد مصرف لبنان نسبة من السيولة النقدية المصرفية على أن تُخصص لتنفيذ استراتيجية “المركزي” بعمليات التسليف كمّاً ونوعاً. بمعنى أبسط، لكي لا تترك توظيفات المصارف حرّة دون حسيب أو رقيب (أي القروض للقطاع الخاص والعام)، بحيث يبقى لدى “المجلس المركزي” القدرة النقدية لإلزام المصارف بضخّها في السوق حسب الظروف والحاجات والحدود التي يرتئيها. ونسبة الاحتياطي الإلزامي عادة ما تنخفض أو ترتفع بقرارات المصارف المركزية في الدول، وفق الحاجة، لتنشيط الدورة الاقتصادية في مواجهة الركود، أو العكس لسحب كتلة سيولة مصرفية من يد المصارف العاملة، أو لتوجيه توظيفات هذه الأخيرة نحو قطاعات معيّنة.
عندما يلجأ “المركزي ” الى استعمال هذا الاحتياطي يفترض أن يحصل ذلك عبر المصارف لأنّ هذه السيولة المصرفية تندرج في خانة مطلوبات على عاتق مصرف لبنان تجاهها.
لذا، فإنّ استعمال “المركزي” لهذه السيولة من خلال المصارف يكون بمحفظة توظيفات إلزامية تحملها هذه الأخيرة، بحسب حجم ودائعها، على أن تخفّض بنسب محددة من الاحتياطي يقررها “المركزي” وحده.
في هذا الإطار، تخضع هذه التوظيفات الإلزامية للتعميمين الأساسيين الـ ٧٨٣٥ و٧٩٢٦ مع تعديلاتهما المتتالية، ومع التعاميم التطبيقية وجداول الاحتساب الصادرة عن لجنة الرقابة على المصارف تباعاً، والتي تسمح للمصارف بتوظيفات إلزامية تخفّض من الاحتياطي بحدّ أقصى يصل إلى ٩٠% من مجمل ودائعها التي تبلّغها “للمركزي” وفق بيانات إحصائية دوريّة.
وهنا، من الطبيعي جداً أن تفضّل المصارف تخفيض الاحتياطي الذي لا يغدق عليها بالعوائد الكبيرة، وتلجأ إلى استعمال هذه السيولة في توظيفات إلزامية، لأنّ هذا هو أصلاً نشاطها التجاري الطبيعي.
عندما أصدر “المركزي” مؤخراً بياناته، وأعلن رسمياً أنّه لم يعد يملك من الاحتياطي إلّا التوظيفات الإلزامية يعني عملياً أنّ نسبة الـ١٠% التي يُفترض بحسب التعاميم الناظمة أن تبقى خارج محفظة المصارف المالية استنفذت بالكامل. ولكن، هذا يعني أيضاً أنّ الـ٩٠% المتبقية ليست سيولة مصرفية جاهزة بل هي محفظة سندات وقروض تحملها المصارف.
مخالفة قانون النقد والتسليف
وترى الكيك انّ مخالفات “المركزي” تكمن تحديداً في سياسته المتبعة باستعمال الاحتياطي، وهو فعلياً اكبر كتلة من السيولة المصرفية الحاصل عليها حكماً وقانوناً، والقادر على توظيفها لإتمام الصلاحيات الموكلة إليه، سواء لجهة استقرار العملة الوطنية أم لجهة تنظيم القطاع المصرفي.
وعندما أعطى المشرّع بموجب نص المادة ٧٦ من قانون النقد والتسليف “للمركزي” اعتبار السندات الحكومية أو السندات الصادرة بكفالة الدولة جزء من توظيفات المصارف الإلزامية إنّما كان يهدف بأن تبقى في يد “المركزي” القدرة على مدّ الدولة بجزء من السيولة المصرفية، ولكن لم يعطه القانون الحق بأن تستنزف توظيفات المصارف في سندات اليوروبوندز وتكون الجزء الاكبر من الاحتياطي.
وتقول الكيك : النص واضح هنا. لذا المخالفة لا غموض حولها. أمّا الثانية التي يجب التوقف عندها فتكمن في توظيفات المصارف في القطاع العقاري، والتي شكّلت بمجملها جزءًا راجحاً من هذه المحفظة.
تسييل محفظة توظيفات المصارف الإلزامية
وعن الصيغة القانونية التي تسمح لمجلس النواب باتخاذ قرار بتمويل الاستيراد والابقاء على الدعم، تقول: ما يعرضه الحاكم هو بكلّ بساطة أن تقرّ السلطة التشريعية قانوناً يُلزم المصارف بتسييل محفظة توظيفاتها الإلزامية (الجزء المتبقّي من الاحتياطي ودائماً بحسب بيانات المركزي)، أو جزء منها، وأن تحوّلها الى المصرف المركزي ليفتح بموجبها اعتمادات استيراد الفيول. مع الإشارة إلى أنّ القسم الأكبر من توظيفات المصارف الإلزامية يندرج في سندات اليوروبوندز التي توقّفت الدولة اللبنانية عن سدادها.
فهل يستطيع مجلس النواب القيام بذلك؟ السؤال برسم، الطبقة السياسية، والمركزي، ولعبة الارنب والجزرة.
وعمّا إذا كان من سابقة في لبنان في هذا الشأن ، تقول الكيك : قانون النقد والتسليف يحدّد “للمركزي” الحدّ الاقصى لنسبة الاحتياطي (١٥% و٢٥%) وليس الحدّ الأدنى.
في الأمس، خفّض “المجلس المركزي” نسبة التوظيفات الإلزامية ١% وألزم المصارف بإعادتها الى مودعي التعميم ١٥٨، والإشكالية المطروحة الطبيعية ليست من باب صلاحيته لناحية تخفيض الاحتياطي، بل بما ألحقه بهذا القرار من تعدّيات على حقوق المودعين.
أمّا عن السوابق في مسألة الاحتياطي نستذكر إحدى المفارقات مع أزمة الثمانينات حيث سعت المصارف جاهدة في تلك الفترة الى حثّ مصرف لبنان على تخفيض الاحتياطي الإلزامي، ومع اصراره على الرفض تدخل صندوق النقد الدولي في تقريب وجهات النظر وإيجاد مقاربة متكاملة للأزمة ترافقت مع إلزام المركزي بتخفيض نسبة الاحتياطي.
وهذا يشبه إلى حدّ بعيد ما قرّره الحاكم سلامة، وبملء إرادته في نيسان ٢٠٢٠ عندما أعفى المصارف من الالتزام بالاحتياطي الإلزامي عن الودائع التي تتلقاها بعد هذا التاريخ.
ولكن، طبعاً لا مجال للمقارنة مع ما يعرضه الحاكم اليوم لأنّ الغاية والطرح والمقاربة والظروف والأهداف والسياسات مختلفة تماماً.
الاحتياطي لم يعد في وضع نقدي قابل للتخفيض. المصارف كانت “مصارف” قادرة على تلقي الودائع .
أما رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني فيلفت الى وجوب التمييز بين الاحتياط الالزامي والاحتياطي بالعملات الاجنبية حيث هناك شقّان؛ شقّ إلزامي وآخر طوعي او فائض. ويقول: لقد تمّ صرف كامل احتياطي العملات على الدعم، إضافة الى ما كان يدخل الى لبنان من دولارات مصدرها الهيئات الدولية لإيواء النازحين بعد استبدالها بالليرة اللبنانية الى جانب عمليات أخرى اجراها “المركزي”.
في المبدأ، يعتبر الدعم من افشل السياسات المعتمدة، ونتائجه الى جانب استعمال وهدر اموال المودعين تتلخّص برفع مستوى التضخم، ارتفاع سعر الدولار ، تدهوّر سعرصرف الليرة وفقدان المواد الصناعية وغيرها… والأهم السلع المدعومة تكون مفقودة او محوّلة الى السوق السوداء، وبالتالي، عمليات التهريب على أوجها.
وقف الدعم اليوم ضروري وخير أن يأتي متأخراً من الّا يأتي ابداً.
ويؤكّد مارديني انه في حال شرّع مجلس النواب تمويل الدعم من الاحتياطي الالزامي ستختفي مادتي البنزين والمازوت معاً من الاسواق ، وسيحلّق الدولار مجدداً وصولاً الى الانهيار الشامل بعد استعمال ما تبقى من اموال احتياطي يقول انها بحدود 14 مليار دولار.
في مطلق الأحوال، يبدو انّ بيت القصيد اليوم يكمن في تأمين التمويل لاستكمال معزوفة الدعم الفاشلة والشعبوية، التي تغنّت بها حكومة تصريف الاعمال لتموّل اقتصاد آخر من جيوب اللبنانيين واموالهم المحجوزة بغرض الهدر، بدل الإفراج عنها وتخفيف الاعباء التمويلية عنهم.
وربما ما صرف على أموال الدعم حتى تاريخه من أرقام، يبقى غير دقيق رغم أن حاكم مصرف لبنان و”المجلس المركزي” يملكان الحقيقة الكاملة التي يريدها اللبنانيون ومن حقهم معرفتها بعيداً عن ايّ حسابات سياسية او حتى ضغوطات لن يسكت عنها التاريخ.
اضغط هنا لقراءة المقال على جريدة النهار