هل طرح فرنسا باعتماد مجلس النقد يحلّ أزمة الليرة؟

منذ استعار الأزمة المالية، يطرح خبراء وعارفون مجموعة من الحلول الاصلاحية، ومن ضمنها خيار إنشاء مجلس النقد.

وأخيراً، أفادت الزميلة رندة تقي الدين من باريس أنّ فرنسا تدرس حالياً مع عدد من شركائها الدوليين إنشاء آلية مالية معروفة بـ currency board أو مجلس النقد، من أجل حماية النظام اللبناني لضمان تسديد المشتريات الأساسية ولدعم الشعب اللبناني في حال انهار كل شيء في لبنان وعدم تشكيل حكومة.

وفيما تهدف هذه الآلية إلى تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار، ثمة أسئلة نطرحها على الخبراء لشرح مفهوم “مجلس النقد”، وأهميّته في حلّ أزمة الليرة في لبنان، والسؤال عن مدى إمكانية تطبيقه والنتائج المرجوّة منه.

مجلس النقد أو ما يُسمّى بالـ currency board يوصى به للدول التي تعاني من واقع سياسي وأمني واجتماعي واقتصادي ومصرفي مأزوم، وهي آلية ليست حلّاً مألوفاً أو عادياً إنّما حلّ يُعتمد في حالات الأزمات القصوى. وقد اعتُمد هذا الحلّ في دولٍ شهدت عدم استقرار أمني وسياسي واقتصادي كما هي الحال في البوسنة والهرسك التي كانت تعيش حرباً أهلية، أو في دول تعاني من فسادٍ متجذّر كما الحال في بلغاريا، وغيرها من الدول التي عانت أزمات مالية مثل هونغ كونغ.

وبحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، الدكتور باتريك مارديني، فإنّ طرح فرنسا لاعتماد مجلس نقد اليوم، يعني أنّ فرنسا فقدت الأمل من إمكان حلّ الأزمة السياسية والاجتماعية ومعالجة الفساد وما إلى ذلك، فضلاً عن عدم تجاوب المعنيين في حلّ ولو أزمة واحدة من الأزمات المتراكمة، وقد أدركت فرنسا أن لا أفق للحل في لبنان بسب التعقيدات التي لمستها أيضاً، لذلك، ارتأت هذا الحلّ كحلٍّ أجدى إزاء هذا الواقع المأزوم الذي يمرّ به لبنان.

لكن ماذا عن قابلية هذا الحل للتنفيذ في لبنان؟ وفق مارديني، فإنّ اعتماد مجلس النقد لا يُطبَّق إلّا في حالات الدول التي تعاني من أزمات شبيهة بالتي يعانيها لبنان، وفي حالات تزامن وتراكم أزمات متعددة. ولأنّنا في دولة تتزامن فيها أزمة سياسية تتمثّل بعدم تشكيل الحكومة، وأزمة مصرفية تتمثّل بتقييد حسابات المودعين، وبأزمة نقدية متمثِّلة بانهيار قيمة الليرة، وأزمة دين عام وأزمة اقتصادية تتمثّل بنموّ سلبي ولا يزال ينخفض، لذلك، لم يعد يسع الدولة سوى اعتماد مجلس النقد الذي يهدف إلى تثبيت سعر الصرف.

ومنذ أواخر 2019، تعيش الليرة نظام سعر الصرف المعوّم في السوق السوداء، أي أنّه غير ثابت. وكان المركزي يتدخّل في سوق القطع لضخّ الدولارات في السوق عبر سياسة الدعم سواء في السوق أو لدى الصيارفة. وبذلك، يعيش لبنان حتى الآن سياسة التعويم الموجَّه (عبر تدخّل المركزي)، إلّا أنّ هذه السياسة أثبتت فشلها، بدليل وصول سعر صرف الدولار إلى 15 ألف ليرة، إلى جانب نفاد احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وأثبت التعويم الموجَّه فشله في بلدٍ نموّه الاقتصادي سلبي، وحيث يتم طبع وضخ الليرة بشكلٍ هائل في السوق لتمويل نفقات الحكومة وسحوبات اللبنانيين من المصارف، إضافة إلى فقدان اللبنانيين ثقتهم بالليرة، لذلك تتدهور الليرة ويرتفع سعر صرف الدولار.

هنا، تأتي أهمية اعتماد مجلس النقد، بحسب ما يشرح مارديني، فهذا المجلس يفصل الليرة عن الوضع الداخلي في لبنان، ويربطها بعملة الاحتياطي الإلزامي (وهي الدولار في لبنان)، وتصبح بذلك الليرة عصيّة على الأزمات الداخلية. ولا علاقة لمجلس النقد بالحكومة ولا بالمصارف ولا بودائع الناس لدى المصارف، إنّما يهتمّ حصراً بقيمة مطلوبات مصرف لبنان بالليرة، وهي نحو 95 ألف مليار ليرة. وبحسب عمل مجلس النقد، تكون الليرة مغطاة 100% مقابل الدولار، ما يعزّز ثقة الناس فيها.

من أين ستأتي هذه الدولارات مقابل الليرة لتضمن ثبات سعرها؟

يوضح مارديني أنّ لدى مصرف لبنان احتياطياً إلزامياً بنحو 14 مليار دولار، ومطلوبات بالليرة بحوالى 40 ألف مليار ليرة في السوق، ونحو 55 ألف مليار ليرة ودائع من المصارف لديه، ما مجموعه تقريباً 95 ألف مليار ليرة. ويحتاج هذا المبلغ لتغطيته في المقابل بالدولار، إذا ما احتسبنا العملية على سعر صرف 10 آلاف ليرة، لنحو 9،5 مليارات دولار يمكن استخدامها من الـ 14 مليار دولار، وبذلك ينخفض سعر صرف الدولار إلى 10 آلاف ليرة، وإذا ما استخدمنا الـ 14 ملياراً كاملة، يمكن خفض سعر صرف الدولار إلى ما دون الـ10 آلاف ليرة.

ويقول مارديني إنّه “في حال اعتماد مجلس النقد، من المؤكّد أنّ سعر صرف الليرة يثبَّت بغضون 30 يوماً، وخلال هذا الشهر ينخفض سعر صرف الدولار، ويصل إلى سعر ثابت إلى أبد الآبدين ولو حتى شهد لبنان حرباً أو أزمة أو أي خضة من أي نوع كانت، لن تتأثّر الليرة لأنّها تصبح مغطاة بالدولار”.

وفي الجزء المتعلّق بإصدار الليرة، يتوقّف ضخ الليرة دون تأمين الدولار في المقابل، ولا يحقّ بذلك للمركزي طباعة الليرة من دون ضمان المقابل بالدولار 100%، ولا يحق له إقراض هذه الدولارات للدولة، لذلك فإنّ هذه الآلية تثبّت سعر الصرف.

وعن تداعيات تطبيق هذه الآلية على الاحتياطي الإلزامي، يفيد مارديني أنّ” الطريقة الوحيدة للمحافظة على الاحتياطي الإلزامي وزيادته هي عبر اعتماد هذه الآلية، فهي تطمئن الناس والمستثمرين تجاه سعر صرف مستقرّ، ويمكنهم بذلك الاستثمار بأصولٍ أسعارها باتت أرخص على سعر الصرف الجديد، وندخل في مرحلة الإنتاج والاستثمارات الكبرى التي تدخل الدولارات وتزيد من الاحتياطي الإلزامي، بدلاً من التصفية وتوزيع الخسائر كما يحصل الآن”.

في السياق نفسه، رأي الخبير في إدارة الاستثمار، فراس أبي ناصيف، أنّ “على الأرجح، ليس لدى المركزي ما يكفي من احتياطي إلزامي لتغطية الكتلة النقدية وودائع المصارف لديه بالليرة، كما أنّه لن يكون هناك ما يكفي من تدفّق بالعملة الصعبة لتغطية ميزان المدفوعات السلبي للسنين المقبلة، ولتغطية العجز في ميزانية الدولة”. لذلك، ولتطبيق مجلس نقد ناجح، نحن بحاجة إلى تطبيق إصلاحات جذرية وبنيوية، إلى جانب تدفّق الدولارات إمّا عبر التفاوض مع صندوق النقد أو عبر اللجوء إلى الدول المانحة للاقتراض منها، مع وجود اقتصاد منتِج.

وبحسب أبي ناصيف، فإنّ “تطبيق إصلاحات اقتصادية ومصرفية جذرية من إلغاء عجز الموازنة وعدم طبع ليرة إضافية، وتوزيع الخسائر في القطاع المصرفي لا يحلّه مجلس النقد، ويحمّل الشعب أعباءً هائلة، ولو أنّها إصلاحات موجِعة، وأساساً في حال إتمام هذه الإصلاحات، لن نكون بحاجة إلى مجلس النقد”.

ومن الأفضل حين ذاك، التوجّه إلى سعر صرف مرِن، من سعر ثابت، على ما يشرح أبي ناصيف. فمجلس النقد لن يسمح بتغيير سعر الصرف، فمن الأسباب التي أوصلتنا إلى الأزمة الراهنة هو تثبيت سعر الصرف. لذلك إذا ما خسرنا مرونة سعر صرف الليرة، فسيكون من الصعب على اقتصادنا أن يتأقلم مع التطوّرات الاقتصادية.

ويلفت أبي ناصيف إلى أنّه مع اعتماد مجلس النقد، لن يكون هناك ما يسمى بمصرف لبنان وسيُلغى دوره، وبذلك، نخسر تلقائياً وكلياً أي سيطرة على التحكم بالسياسة النقدية، وتصبح فقط رهن التدفقات المالية التي تدخل إلى لبنان.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار