العمالة الأجنبية تراجع حساباتها “لبنان لم يعد أرضا جاذبة”

العمالة الأجنبية تراجع حساباتها “لبنان لم يعد أرضا جاذبة”

أدت أزمة شح الدولار في لبنان إلى تضرر نواح كثيرة من الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي في ذلك البلد، ومن بين النتائج المباشرة لتلك الأزمة، إعادة هيكلة “سوق العمالة الأجنبية”، حيث تراجع عدد سمات العمل التي منحها الأمن العام اللبناني إلى ما دون العشرة آلاف، وتحديداً 9780 سمة عمل جديدة لأجانب في عام 2020، في مقابل 57957 سمة عمل في عام 2019. وتظهر العمليات الحسابية تراجعاً بمقدار 83 في المئة، أي ما يساوي 48177 سمة عمل.

وتظهِر الإحصاءات تراجعاً ملحوظاً وكبيراً لدى بعض الجنسيات، فتراجعت اليد العاملة من الجنسية الغانية بنسبة 94 في المئة، وكذلك الفيليبينية تراجعت بنسبة 86 في المئة، والبنغلاديشية 85 في المئة تقريباً.

وفتحت هذه التراجعات باب التساؤل واسعاً حول مستقبل سوق العمل في لبنان، وإمكانية تأدية المواطن اللبناني تلك “المهن الدنيا” التي كان يتمنع عن القيام بها، تاركاً إياها للأجنبي الذي يقبل بالعمل لقاء أجر منخفض نسبياً.

في موازاة ذلك، يظهر مدى تأثُر العمالة غير النظامية بالأزمة التي تضرب سوق العمل في ظل أزمة انهيار الليرة، والأزمة الاقتصادية القاسية.

هجرة العمالة الأجنبية

وأدى تراجع سعر صرف الليرة إلى ضرب “سوق العمالة المنزلية”، فما عادت إمكانيات الكثير من الأُسر تسمح لها بدفع أجرة المساعدة المنزلية، التي كانت تُعتبر منخفضة نسبياً. فعندما كان سعر صرف الدولار ثابتاً عند عتبة الـ1507 ليرات مقابل الدولار الأميركي، كان أجر العاملة الذي يتراوح بين 150 و300 دولار، وهو مبلغ كان يُعتبر متدنياً نسبياً، في المقابل، كانت المساعدة المنزلية تحمل أعباء كبيرة عن ربة المنزل سواء على صعيد التنظيف أو تربية الأطفال. ولكن مع تحطيم سعر صرف الدولار سقوفاً قياسية، وبلوغه مع بداية مارس (آذار) الحالي عتبة العشرة آلاف ليرة، أصبح أجر العاملة يتجاوز أجر بعض أرباب العائلات، حيث بلغ الحد الأدنى للأجور في لبنان ما يساوي 67 دولاراً أميركياً تقريباً، أي ما يساوي الحد الأدنى في أفغانستان.

وتروي المواطنة اللبنانية فاطمة عرابي أنها منذ ثلاث سنوات، اضطُرت إلى الاستعانة بمساعدة منزلية من الجنسية الإثيوبية لقاء 150 دولاراً أميركياً، على أن تزداد الأجرة سنوياً بمقدار 25 دولاراً. ومع انتهائها من دراستها، بلغ أجر مساعِدتها المنزلية 200 دولار، “وهو مبلغ مقدور عليه”، وفق ما قالت عرابي. ولكن مع الارتفاع القياسي لسعر صرف العملة الأجنبية، عجزت الأسر العاملة في القطاع العام عن تأمين البدل المالي للأجيرة المنزلية.

ودخلت فاطمة في مفاوضات مع أجيرتها الإثيوبية لأن أجرها بالدولار أصبح معادلاً لأجر ربة المنزل، وبعد ثلاث سنوات غادرت الشابة الإثيوبية إلى بلادها، وبدأت عملية البحث عن عمل جديد، لتجد فرصة جيدة في الإمارات العربية المتحدة مقابل 400 دولار لقاء العناية بالأطفال. ولفتت فاطمة إلى أن “أجر الشابة الإثيوبية في الإمارات أصبح يعادل ضعف أجر موظف القطاع العام في لبنان. كما أن العمل في الإمارات يتمتع بميزة غير موجودة في لبنان، حيث يمكن للأجيرة الانتقاء بين العمل المطبخي أو العناية بالأطفال، وهذا الأمر قد يدفع المزيد من المساعدات المنزليات إلى مغادرة لبنان”. وأكدت فاطمة أنها أمنت كل التسهيلات لمستخدَمتها السابقة من بينها الوثائق التي تفيد بإقامتها وخروجها بطريقة شرعية من لبنان عبر جهاز الأمن العام.

حصة العمالة الأجنبية

وتساهم الإحصائيات في فهم تأثير الأزمة المالية على العمالة الأجنبية التي غادر قسم كبير منها لبنان. إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، ما زالت تحظى هذه العمالة بحصة كبيرة من سوق العمل، ولا بد من الإشارة إلى أن اللاجئين السوريين والفلسطينيين يشكلون شريحة وازنة من العمالة في لبنان.

وأفاد الباحث في “الشركة الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين بأن “في لبنان 600 ألف عامل سوري حالياً، أي بتراجع ملحوظ عن السنوات السابقة عندما كان يُقدر عددهم بـ900 ألف. أما بالنسبة للجنسية الفلسطينية، فقد بلغ عدد عمالها في لبنان 130 ألفاً”.

أما بالنسبة إلى العمال من باقي الجنسيات، بلغ عدد العمال الأجانب في لبنان من الجنسيات العربية والأجنبية 260 ألفاً، متراجعاً من 350 ألفاً، وأوضح شمس الدين أنه “في كل عام كان يأتي نحو 57 ألف عامل أجنبي جديد إلى لبنان، إلا أن هذا العدد تراجع إلى نحو 10 آلاف في عام 2020”.

وجهة العملة صعبة

ويجري الحديث بإستمرار عن نزفٍ مالي بالعملة الصعبة بسبب العمالة الأجنبية، وهذا الأمر تزداد وطأته خلال الأزمات الاقتصادية المتصلة بشح العملات الصعبة. وأشار شمس الدين إلى أن “العمالة الفلسطينية لا تحول إلى الخارج، أما باقي العمالة العربية والأجنبية فتُقدر تحويلاتها سنوياً بـنحو 700 مليون دولار”.

وأوضح أن “العمالة السورية كانت تتجاوز تحويلاتها المليار والنصف المليار دولار سنوياً في فترة قبل الحرب التي اندلعت في عام 2013. ولكن بعد الحرب السورية، ومع استقدام العمال لعائلاتهم إلى لبنان تقلص مبلغ التحويلات إلى نحو 500 مليون دولار سنوياً”. وهذا الأمر يشير إلى أن إجمالي التحويلات يبلغ حالياً نحو 1,2 مليار دولار، بعد أن كان سابقاً نحو من 2,6 مليار دولار”. وأضاف أنه “بناء على ذلك، يمكن تقدير حجم التحويلات بـ50 مليار دولار خلال العقدين الماضيين، هذا الأمر بالتأكيد لا يمكنه إخفاء الفائدة الاقتصادية من تلك العمالة التي يشغل الكثيرون منها مهناً لا يرغب بها اللبناني. ويُقدَّر عدد العمالة الأجنبية في المهن الدنيا، نحو 260 ألف شخص، تحوز العمالة المنزلية على حصة الأسد على 200 ألف فرصة عمل من بينهم، ويتوزع الآخرون على محطات المحروقات، وأعمال جمع النفايات، والزراعة، ونواطير الأبنية، والتنظيف في المطاعم. ويُقسَم هؤلاء بين 180 ألف عامل شرعي، و70 ألف غير شرعي، و10 آلاف عامل جديد”.

حاجة أم منافسة؟

من جهة أخرى، تنقسم وجهات النظر حول العمالة الأجنبية في لبنان، بين تيار يعتبرهم منافسين جديين للعمالة الوطنية، ومَن يرى فيهم ضرورةً اقتصادية. وميّز الباحث محمد شمس الدين بين “عمالة ضرورية كحال السوريين في مجال البناء، وأخرى تشكل منافسة للعمالة والوطنية واليد العاملة اللبنانية كما هو حال العمال في المحلات التجارية والمطاعم”.

وعبّر شمس الدين عن اعتقاده بأن “قسماً كبيراً من العمال الأجانب سيغادر لبنان خلال العام الحالي بسبب انهيار الليرة الوطنية وشح الدولار”، مضيفاً أن “نحو 100 ألف عامل قد يبقون في لبنان، بينما ينتظر البعض انتهاء عقودهم للمغادرة. لذلك لا بد من تشجيع اللبناني على العمل، لأن ذلك يبقى أفضل من البطالة والعوز”.

أما رئيس “المعهد اللبناني لدراسات السوق” الدكتور باتريك مارديني فقال، إن العمالة الأجنبية تشكل “قيمة مضافة للاقتصاد اللبناني وليست سلبية، لأنها تقوم بالمهن التي يمتنع اللبناني عن القيام بها، على غرار جمع النفايات”، لافتاً إلى أن وجود العمالة الأجنبية يخفض كلفة الإنتاج، ويجعل من الصناعة المحلية أكثر تنافسية، ويفتح الباب أمام التصدير، ما يتيح إدخال دولار إضافي إلى السوق المحلي”.

ورأى مارديني أن “الفائدة من العمالة الأجنبية هي أكثر بكثير من الدولار الذي يخرج من لبنان”، مشيراً إلى أنه “لو لم يكن هناك من قيمة إضافية لأعمالهم، ما كانت المؤسسات والأسر قامت بتوظيفهم، إما بسبب الكلفة المنخفضة للأجور، أو تحريرهم لأوقات الموظفين والعمال، وفتح الباب أمام العامل المحلي للقيام بأعمال ذات قيمة إضافية ودخل أعلى”.

وتابع مارديني أنه “في كل الدولة، وعند وقوع أزمات اقتصادية، يبدأ البحث عن كبش محرقة من بين الضعفاء والأقليات، وتقوى تغذية الشعور القومي ضد الأجانب، من أجل حرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للأزمة، التي تتلخص بأخذ الدولة اللبنانية أموال المودعين في المصارف وصرفها عبر البنك المركزي، وقيامها بطبع الليرة اللبنانية”.

التأثير الإيجابي

في سياق متصل، يقرأ بعض الخبراء الاقتصاديين بإيجابية “تراجع منح سمات العمل للأجراء الأجانب الجدد” في لبنان. ورأى الخبير الإقتصادي دان قزي أنه “يجب على المواطن اللبناني الانتقال إلى العمل في الفرص المتاحة، لأنه لا يجوز الاستمرار في تخصيص بعض المهن لجنسيات محددة، العمالة المنزلية لإثيوبيا والفيليبين، محطات المحروقات للشبان المصريين، المقاهي والبناء للسوريين، والتنظيف للعمال من بنغلاديش. ويُقدَّر عدد هؤلاء بـ700 ألف عامل، يمكن أن يتسببوا في استمرار نزف الدولار إلى الخارج”.

واستغرب قزي “كيف أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سمح للأجانب باستلام أجورهم بالدولار في الخارج، في وقت يُمنع على اللبناني قبض ودائعه الموجودة بالدولار، بينما تُدفَع لهم أموالهم لقاء 3900 ليرة لبنانية لكل دولار، بحسب السعر الذي حدده المصرف المركزي”. وقال قزي إن “هناك ضرورة لتغيير ثقافي، لأن اللبناني إذا ما جاع سيقوم بتعبئة البنزين على المحطة، وسيقوم بعمل التنظيفات”، مطالباً بفرض ضريبة 5 آلاف دولار على العمالة الأجنبية، “لأنه لا يجوز وضع حد أدنى للأجور للعمالة اللبنانية، ومن ثم السماح بدخول عمالة أجنبية رخيصة. كما يجب استقدام العمالة الأجنبية الماهرة ذات الكفاءات العالية التي لا يمتلكها العامل المحلي”.

وذكر قزي أن “الأجور في فترة الانهيار الاقتصادي في عام 1992 بلغت حدود الـ5 دولارات شهرياً، وكان هناك استعداد لدى اللبناني حينها للقيام بأي عمل من أجل تحقيق الحد الأدنى من الدخل الذي يؤمن أساسيات الحياة”.

ويطمح قزي في “انتقال لبنان إلى اقتصاد المعرفة القائم على الإبداع من أجل فتح الباب أمام الشباب اللبناني من الجيل الجديد، كي لا يضطر أصحاب الأفكار إلى الهجرة، وتحويل الأموال إلى أهاليهم، حيث تُقدر نسبة التحويلات من “الملاك الحارس لكل عائلة لبنانية” في الخارج نحو 7 مليارات دولار اغترابي”.

العمالة غير الشرعية “مربحة” لرب العمل

ولا تتوقف “أزمة سوق العمالة الأجنبية” على نزف الدولار، وإنما إلى مشكلة “العمالة غير النظامية” التي يُقدرها الخبير في المرصد اللبناني لحقوق العمال، الدكتور سعيد عيسى بـ”55 في المئة من إجمالي سوق العمل الحقيقي، يعملون في مؤسسات غير مسجَلة نظامياً، وهم غير موجودين في الدورة الاقتصادية القائمة قانوناً”.

ويعود السبب في ارتفاع عدد هذه الشريحة، بحسب عيسى إلى “تهرب أرباب العمل من تسجيل أُجرائهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”، لافتاً إلى أن “99 في المئة من العمالة السورية غير نظامية لأنها لا تمتلك إجازات عمل”.

وأشار عيسى إلى أن “أرباب العمل يستخدمون أُجراء غير شرعيين لعدم الالتزام بالحد الأدنى للأجور، أو عقود العمل النظامية، ودفع اشتراكات الضمان، بدلات النقل، إجازات، ساعات العمل الإضافية، الطبابة، رسوم الإقامة وغيرها. ويساهم ذلك في خفض قيمة الإنتاج، ويرفع مستوى الأرباح، وهذا أمر شائع في كل بلاد العالم من خلال استخدام الضعفاء لتهديدهم بقوت يومهم”.

وقال عيسى إن “أرباب العمل لا يحبذون مغادرة اللاجئين لبنان لأنهم يؤمنون لهم عمالة شبه مجانية”. وطالب بتشجيع الشباب اللبناني على التخلي عن “البرستيج الاجتماعي” والقيام بكافة الأعمال لأنه حتى قبل الانهيار الاقتصادي كان 30 في المئة من الشباب يعانون من البطالة، مشدداً على ضرورة تغيير العقلية القائمة لأنه “قبل الحرب كان سائر عمال البلديات من المواطنين اللبنانيين”. ولا يتوقع عيسى تراجع العمالة غير النظامية في لبنان لأن “الأوضاع في بلادهم ليست أفضل من حال لبنان، ففي سوريا مثلاً هناك انهيار قياسي للعملة الوطنية”.

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع Independent Arabia