بعد اقتراح “طبيب العملات” البروفسور العالمي ستيف هانكي انشاء مجلس نقد في لبنان، احتدم النقاش حول جدوى انشاء هذا المجلس بين مؤيد ومعارض. لكن لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة والتخطيط في مجلس النواب كانت من المتحمسين لهذا الطرح،فارتأت عقد اجتماع مع هانكي عبر تقنية “الزوم” في 22 كانون الثاني 2021. وبحسب مصادر “النهار”، تمحورت هواجس الكتل النيابية حول المحاصصة السياسية التي قد تشكل عائقا أمام تشكيل هذا المجلس، وحول إمكان تطبيقه في لبنان في ظل عدم الاستقرار السياسي وتأثيره على النمو الاقتصادي، وكذلك حيال مصير الودائع ورواتب الموظفين في حال اعتماده. كما تطرق جزء من النقاش الى التوقيت، إذ يفضل البعض انتظار تشكيل الحكومة، فيما يدفع البعض الآخر نحو التوقف عن إضاعة الوقت واقتراح مشروع قانون لإنشاء مجلس النقد وإقراره في مجلس النواب.
النائب علي درويش، اوضح لـ”النهار” أن مجلس النقد هو احدى الافكار المطروحة التي يمكن ان تشتمل على ايجابيات للافادة منها في موضوع استقرار سعر الصرف. وإذا كان ثمة وجهات نظر عدة، إنْ في المجلس النيابي أو على صعيد خبراء الإقتصاد، الا ان درويش أكد أن ثمة اجماعا على أسئلة محددة حول من يحكم هذا المجلس، وكذلك فرص نجاحه في ظل غياب عدم الاستقرار السياسي على صعيد السلطة التنفيذية (مجلس وزراء تصريف اعمال)، فيما مصرف لبنان يعاني نقصا في السيولة واستنزافا في العملات الاجنبية بسبب الدعم. وتاليا السؤال الاهم: “هل من امكانية لإصدار نقد جديد يمكن أن يكبل السلطة النقدية”؟ ولفت الى أنه “حتى الآن لم نخرج بآلية محددة لكيفية التطبيق، لأن هذه الامور يجب أن تبحث في العمق”.
اما النائب فادي علامة فيعتبر أنه “على رغم اهمية هذا الطرح ونجاحه في دول عدة، خصوصا في الدول الشيوعية السابقة، إلا ان ثمة اجماعا من بعض النواب الملمّين بالاوضاع الاقتصادية على ضرورة أن يكون من ضمن البرنامج الاصلاحي الشامل”. وإذ رأى ضرورة وضع هذا الطرح على النار، وعدم تأجيله، قال: “المشكلة هي في عدم تشكيل حكومة تنظر في هكذا مشاريع، وتركيز المعنيين حاليا في موضوع كورونا وعملية التلقيح”.
مجلس النقد ليس مجلسا جديدا يعيّنه السياسيون، ويقرر السياسة النقدية للبلاد بشكل استنسابي (Discretionary Monetary Policy)، كما يعتقد البعض. فهذا التعريف وفق رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني “ينطبق على المجلس المركزي لمصرف لبنان الذي يدير السياسة النقدية حاليا. اما مجلس النقد فهو مجموعة قوانين يضعها مجلس النواب تحدد قواعد صارمة لعملية إصدار العملة النقدية (Rule-Based Monetary Arrangement). وتلغي هذه القوانين كل معايير الاستنسابية الموجودة حاليا وتضع قواعد أهمها الاحتفاظ باحتياطٍ (دولار مثلا) يساوي 100% أو أكثر بقليل من مطلوبات المصرف المركزي بالليرة”.
مجالس النقد نجحت في الدول التي تعاني من عدم استقرار سياسي وأمني (البوسنة والهرسك) أو فساد كبير (بلغاريا وليتوانيا) او أزمات مصرفية (بلغاريا وهونغ كونغ) “لأنها فكت ارتباط العملة المحلية بالوضع الداخلي لهذه البلدان، وربطتها حصرا بعملة الاحتياط فأنتجت الاستقرار النقدي للبلاد وأوقفت ارتفاع الأسعار. وفي حال اعتماده في لبنان، تصبح الليرة بصلابة الدولار ونسخة طبق الأصل عنه وقابلة للتحويل بالكامل وغب الطلب إلى دولار طازج على سعر صرف ثابت. وعندما يتأكد الناس من القدرة على تحويل كامل ليراتهم إلى دولارات طازجة ساعة يشاؤون على سعر صرف ثابت لا يتزحزح باعتبار الدولارات الموجودة تغطي 100% من قيمة الليرة، تستعاد الثقة بالأخيرة”.
مع تدهور سعر صرف الليرة، أصبحت أسعار الأصول المحلية من عقارات ومبان وشركات ومزارع ومصانع منخفضة لمن يملك دولارات طازجة. ومع ذلك، لم تتدفق الدولارات الطازجة على لبنان، لأن المستثمرين لا يثقون بسعر صرف الليرة الذي قد يتدهور أكثر في أي لحظة برأي مارديني. “من هنا اهمية وقف انهيار سعر صرف الليرة عبر انشاء مجلس نقد، لأنه يؤدي تلقائيا إلى تقليص مخاطر سعر الصرف (Currency Risk) بشكل كبير. عندها، يشجع استقرار الليرة والأصول الرخيصة وتكاليف الإنتاج المنخفضة ورواد الأعمال على استئناف أعمالهم في لبنان، في قطاعات الخدمات التي كانت ذات تنافسية عالية قبل الأزمة، وايضا في قطاعات إنتاجية أخرى مثل الصناعة والزراعة التي أصبحت تنافسية مع ارتفاع أسعار السلع المستوردة. فمع انخفاض مخاطر سعر الصرف (Lower Risk) من جهة والمردود المرتفع (Higher Return) الذي توفره فرص الاستثمار بالأصول الرخيصة (Cheap Assets) من جهة أخرى، تعود التدفقات المالية إلى لبنان لتمويل القطاعات الإنتاجية والنمو”.
ومعلوم ان المصارف وضعت قيودا على سحوبات الدولار وسمحت للمودع بسحب مبلغ شهري معين على سعر صرف المنصة المحدد بـ3950 ليرة للدولار، فيما أبقت على سعر صرف 1507 ليرات للدولار للمبالغ التي تفوق السقوف المحددة، ويمكن المودع تسييل دولاراته القديمة عند تجار الشيكات بنسبة اقتطاع 66%. ويربط مارديني نسبة الاقتطاع (Haircut) بقدرة المصارف على تحصيل قروضها، ويقول: “أقرض النظام المصرفي (المصارف التجارية ومصرف لبنان) 74 مليار دولار للدولة والقطاع الخاص على سعر الصرف الوسطي للعام 2020، أي 5000 ليرة للدولار، أو 65 مليار دولار وفقا لسعر صرف 8500 ليرة للدولار. وفي ظل الظروف الحالية وانكماش اقتصاد لبنان، لا يمكن الحكومة ولا القطاع الخاص سداد الجزء الأكبر من ديونهما للمصارف، ما يعني أن المصارف بدورها لا يمكنها سداد ودائع زبائنها. اما مجلس النقد، فيسمح بتقصير المدة الزمنية للقيود وبرفع سقوف السحوبات وبتخفيض نسب الاقتطاع من جراء تحسن قدرة القطاع الخاص والدولة على سداد ديونهما للمصارف، ما يسمح للأخيرة بسداد متوجباتها لزبائنها. فالمجلس يلغي المخاطر المتعلقة بسعر الصرف بما يحفز عودة التدفقات وإنعاش القطاعين الخاص والعام، فتتحسن قدرتهما على سداد ديونهما للمصارف. وتاليا مع استرجاعها نسبا أعلى من تسليفاتها، ستتمكن المصارف من سداد مبالغ أكبر لمودعي الدولار القديم. من هذا المنطلق، سيكون إنشاء مجلس نقد لمصلحة مودعي الدولار لأنه سيصغر خسائرهم ويعيد تكوين جزء من ودائعهم”.
اما بالنسبة الى رواتب موظفي القطاع العام، فأكد ان “نفقات الموظفين تقدر بنحو 10 تريليونات ليرة والنفقات الجارية بحوالى 3 تريليونات ليرة مقارنة بمداخيل تبلغ نحو 14 تريليون ليرة، ما يعني أن الحكومة اللبنانية تملك، حتى من دون إنشاء مجلس نقد، مداخيل كافية لتغطية كلفة الموظفين والنفقات التشغيلية. ولكن بعد إضافة الخسائر السنوية لقطاع الكهرباء، وخدمة الدين، يظهر عجز الموازنة العامة”. أما في حال إنشاء مجلس نقد، فيتوقع مارديني “أن ترتفع الإيرادات الحكومية بسبب عودة تدفقات رأس المال وإطلاق العجلة الاقتصادية واستقرار سعر الصرف، ما سيزيد من الفائض الاولي (قبل احتساب سلفة الكهرباء وخدمة الدين)”. كما يتوقع “أن تنخفض خدمة الدين بسبب انخفاض معدلات الفائدة في لبنان، بشكل يسمح للفائض الاولي بتغطية خدمة الدين المحلي، إذ بمجرد استقرار العملة، سينخفض التضخم إلى مستوى يحاكي معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية، وتنخفض الفائدة إلى مستوى أدنى مما كانت عليه في لبنان في العقدين الماضيين”.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار