تبحث لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة والتخطيط اجتماعا، برئاسة النائب فريد البستاني، منذ الأسبوع الماضي، في موضوع تأسيس مجلس النقد (currency board)، الذي يعتبر الحل الأمثل اليوم لمشكلة الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وذلك بمشاركة الخبير المالي د. باتريك مارديني، والخبير المالي المتخصص في الاقتصاد التطبيقي (applied economy)، في جامعة “جون هوبكنز”، البروفسور ستيف هانكي.
وللاطلاع على أجواء هذه اللقاءات التي ستستكمل خلال الأسبوع الجاري، كان لموقع “الاقتصاد”، مقابلة خاصة مع د. مارديني الذي أوضح أن لجنة الاقتصاد دعته يوم الأربعاء للاستماع الى رأيه حول موضوع إنشاء مجلس نقد في لبنان، ومن ثم طلبت من البروفسور هانكي التحدث أيضا في هذا الموضوع، من أجل التعرف الى مبادئ مجلس النقد، وطرق عمله، وتأثيراته على الاقتصاد اللبناني. وأشار الى أن اللجنة تبحث عن الحلول لمشاكل البلد الاقتصادية، وجزء أساسي من هذه المشاكل يكمن في ارتفاع سعر صرف الدولار.
وقال: “لقد التمست جدية في البحث عن الحلول لهذه المشكلة، لأنها تطال كل الشعب اللبناني وكل الأحزاب السياسية”، كاشفا أن الحلّ القائم بتأسيس مجلس للنقد، سيتطلب حتما بعض الوقت، لدراسته والتعرف الى جوانبه كافة، وتطبيقه”. وأضاف: “أعتقد أن اللجنة اتخذت القرار الصحيح والمناسب في الاستماع الى الخبراء. ولكن نتمنى أن لا تطول المدة في اتخاذ القرار، لأن كل تأخير يعني المزيد من الارتفاع في سعر الدولار، والمزيد من التأزم في الحالة المعيشية للشعب اللبناني، الذي سيقترب أكثر فأكثر من خط الفقر، وما دونه؛ فكلما ارتفع الدولار، كلما تراجعت قدرة المواطن على الشراء بالليرة”.
كما لفت د. مارديني الى أن “مجلس النقد قادر على فصل الليرة عن السياسة والفساد وبقية الإصلاحات، وفي بلد مليء بالخضات السياسية المتتالية، يعتبر الحل الأنسب؛ فصحيح أنه لا يناسب كل دول العالم، لكنه قادر حتما على مساعدة البلدان التي خرجت من الحروب الأهلية – كما حصل في البوسنة والهرسك – أو البلدان التي تشهد على نسب تضخم مرتفعة للغاية – كما حصل في بلغاريا. هذه البلدان بالإجمال، من الأفضل لها أن تلجأ الى مجلس النقد”.
وتابع قائلا: “أي شخص يريد اليوم تحويل الأموال الى لبنان، سيتردد لسببين: الأول، تأزم الوضع السياسي، والثاني التخبط الحاصل في سعر الصرف؛ فعند القيام بأي استثمار في لبنان، لن يعرف المستثمر على أي سعر صرف للدولار سيحول أرباحه. وفي ظل وجود هذا الخطر المالي والنقدي، الذي لا علاقة له بالخطر السياسي، لن يقدم أحد على اختيار لبنان كوجهة لاستثمارته. ومن هنا، فإن مجلس النقد يخفض الخطر النقدي الى الصفر، وبالتالي، ستتراجع المخاطر بشكل عام، ما سيساعد البلاد على العودة الى استقطاب بعض الاستثمارات، وسيسهم في تحريك العجلة الاقتصادية من جديد”.
وأكد د. مارديني لـ”الاقتصاد”، أن الحل القائم على إنشاء مجلس للنقد، لن تلجأ اليه الولايات المتحدة أو فرنسا أو ألمانيا على سبيل المثال، كونه لا يتناسب مع طبيعتها، ومع نوع المؤسسات الموجودة فيها، والتي تختلف تماما عن تلك المحلية، من حيث الاستقرار السياسي، والمصداقية الكبيرة بالنسبة الى السياسة النقدية، التي تكون منفصلة عن السياسة المالية للدولة. وبالتالي، لا يتم اللجوء اليه إلا في البلدان التي تعيش أزمات مثل لبنان، حيث يرتفع الدولار بشكل سريع وجنوني، والليرة تنهار، والأسعار تخرج عن السيطرة، في ظل غياب الاستقرار السياسي. ومن هنا، لا يمكن الوصول الى برّ الأمان والاستقرار، إلا عبر مجلس النقد.
كما قال: “نحن في بلد مختلف الى حد ما عن غيره، في ما يتعلق بالمشاكل التي نواجهها، ولهذا السبب، يجب أن تكون الحلول التي نسعى للوصول إليها، مختلفة أيضا؛ فعلى سبيل المثال، كلما طلبت الحكومة من مصرف لبنان طبع المزيد من العملة، لتمويل نفقاتها، سيقبل على الفور، ما سيؤدي حتما الى المزيد من الارتفاع في سعر صرف الدولار، في حين أنه في بلدان أخرى، اذا طلبت الحكومة ذلك من المركزي، دون زيادة حجم الاقتصاد، سيرفض التطبيق”. وأضاف: “انطلاقا من هذا الواقع، لا بد من الاعتراف أنه لم يعد بإمكاننا الاعتماد على السياسة النقدية الاستنسابية (discretionary monetary policy)، بمعنى أننا لا نستطيع الاتكال على مصداقية المؤسسات في لبنان، من أجل تأمين استقرار النقد، وبات من المفترض اللجوء الى ما هو أكثر فعالية، وذلك عبر القواعد الصارمة التي يفرضها مجلس النقد”.
وأردف قائلا: “البروفسور هانكي قادر على خفض سعر صرف الدولار وتثبيته على مستوى منخفض، والحفاظ على هذا المستوى الى أبد الأبدين، وكل ذلك خلال شهر واحد فقط. وفي حال تم تعيينه من قبل مجلس النواب كمستشار، لمساعدته في تطبيق مجلس النقد على لبنان – مع العلم أنه يقدم خدماته بشكل مجاني – سينجح في خفض سعر الصرف، وسنصل الى الاستقرار المطلوب. فلنعطه هذه المهلة القصيرة، اليوم قبل الغد، لأنه في ظل غياب مجلس النقد، سيبقى اتجاه الدولار تصاعديا لثلاثة أسباب:
– الأول، غياب الثقة بالليرة اللبنانية والهروب منها؛ فالشعب اللبناني يفضل صرف المبالغ بالعملة المحلية، بشكل سريع، خوفا من المزيد من التدهور في قيمتها.
– الثاني، طباعة كثيفة لليرة، تحصل من أجل تسيير الدين العام؛ وذلك لأن المصارف أقرضت المصرف المركزي، الذي بدوره أقرض الدولة، وبالتالي، اذا أراد المودع اليوم سحب أمواله من المصارف، لن يتمكن من ذلك لأن الحكومة صرفتها.
– الثالث، النمو السلبي الذي نشهده؛ فلو كان الاقتصاد يكبر، من الممكن حينها زيادة حجم الكتلة النقدية.
وأكد أن هذه العوامل تؤدي الى ارتفاع الدولار بشكل كبير، ولا شيء سيوقف منحاه التصاعدي، إلا الاستعانة بالبروفسور هانكي، الذي سيؤسس مجلس النقد، والباقي ما هو إلا تضييع للوقت.
أما في موضوع زيادة رأسمال المصارف بنسبة 20%، وتكوين أموال لدى المصارف المراسلة بنسبة 3% من ودائعها الاجمالية بالدولار، قبل نهاية شهر شباط القادم، فأوضح د. مارديني أن القطاع المصرفي بحاجة حتما الى إعادة الهيكلة، ومعظم المصارف ستنجح بالالتزام بشروط المركزي، لأنها ليست صعبة للغاية، حيث لم يطلب منها رفع رأس المال عن طريق الـ”fresh dollars”، في حين أن غالبيتها وضعت يدها على عقارات، كان المقترضون قد قاموا برهنها مقابل قرض، لكنهم تخلفوا عن الدفع. وهذه العقارات تم تقييم أسعارها، ووضعها كجزء من رأس المال. وبالتالي، فقد حصلت عملية رفع رأس المال داخل لبنان، وأعتقد أن معظم المصارف قادرة على القيام بذلك. أما بالنسبة الى الـ3% من الخارج، فهذا الأمر بحاجة الى الدولار الطازج، وهنا سننتظر لنتعرف الى المصارف التي ستكون قادرة على تحقيق شروط المركزي، والتي ستكون بذلك أفضل نسبيا من غيرها؛ مع العلم أن بعضها قد باع فروعه في الخارج من أجل تأمين رأس المال المطلوب.
وقال: “نعمل اليوم على إعادة هيكلة للقطاع المصرفي، في ظل أزمة اقتصادية قاسية، ما يعني أن وضع المصارف صعب، وبالتالي تلك القادرة على الاستمرار على قيد الحياة، سيكون عددها أقل في ما لو كان الوضع الاقتصادي في البلاد مستقر. ومن هنا، اذا أنشأنا مجلسا للنقد، يؤمن الاستقرار الاقتصادي والمالي، تصبح عملية إعادة الهيكلة أسهل بكثير، لأن المصارف ستتنفس الصعداء مجددا، وستحصل على بعض السيولة من الخارج، التي ستساعدها على تنشيط حركتها، وعندها سيحصل المودعون على أمل باسترجاع جزء من ودائعهم أو حتى جميعها”.
وتابع د. مارديني قائلا: “أما اليوم، في ظل الانكماش الاقتصادي والتضخم المفرط، فسوف تكون إعادة الهيكلة أقسى بكثير، ومن المؤكد أنها لا تعني أن المودعين سيستردون ودائعهم، ولا علاقة لها بذلك. فمن المبكر جدا الحديث عن هذا الموضوع. وفي ظل غياب مجلس النقد، ستطول مشكلة الودائع أكثر فأكثر، مع العلم أن هذا المجلس لن يحل المشكلة بلحظة، بل سيكون بمثابة بداية جدية للحل”.