هل سيستعيد اللبنانيون أموالهم التي استولت عليها المصارف؟!

هل سيستعيد اللبنانيون أموالهم التي استولت عليها المصارف؟!

حالة استسلام ورضوخ تسيطر على اللبنانيين وكأنهم تقبلوا الأمر الواقع، فالسفينة تغرق بمن فيها، ولا أمل بالنجاة، في وقت تبدو فيه الحلول عالقة في مختلف الأزمات التي يواجهها لبنان؛ إذ يستمر التدهور الاقتصادي الذي بدأ نهاية 2019، ومنذ ذلك الحين، يتوالى أكبر انهيار مصرفي في تاريخ لبنان الحديث، ويترافق مع انهيار مواز في سعر العملة الوطنية؛ إثر انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي بما يتجاوز 80 في المائة بالتزامن مع شحّ الدولار وتوقف المصارف عن تزويد المودعين بأموالهم الدولارية. وتسبّبت الأزمة بارتفاع معدل التضخم وجعلت قرابة نصف السكان تحت خط الفقر.
وفيما يواصل لبنان مساره الانحداري، أحدث تصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول الليرة قبل أسبوع خضة كبيرة لدى الرأي العام اللبناني الذي اعتاد سماع عبارة «الليرة بخير» على لسان سلامة طوال السنوات الماضية، فليس تفصيلا أن تنعى حاكمية مصرف لبنان عصر تثبيت العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، إذ أكد سلامة في حديث لقناة «فرانس 24» يوم الجمعة الفائت أنّ «عصر تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية انتهى، ونتّجه نحو سعر صرف معوّم يحدده السوق». ليعود ويوضح لوكالة «رويترز»، بعد الجدل الكبير أن «أي تعويم للعملة سيعتمد على مفاوضات مع صندوق النقد الدولي».

نهاية عصر تثبيت الليرة
وبذلك يكون سلامة قد أعلن نهاية حقبة ما بعد «الحرب الأهلية»، ليعلن رسمياً بداية حقبة جديدة قد نشهدها ما بعد مرحلة الانهيار المالي، فعلى مدى 30 عاماً، وفي مرحلة ما بعد الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان 15 عاماً، انتهج البلد سياسة نقدية قائمة على استقرار سعر الصرف وربطه بالدولار الأميركي عند مستويات بقيت مستقرة عند 1507 ليرات للدولار الواحد. وهي سياسة أمنت عودة إطلاق عجلة النمو وازدهار لبنان، فعرف اللبنانيون عصرهم الاقتصادي الذهبي آنذاك قبل أن تعصف الكوارث بباريس الشرق.

وهم التثبيت
يمكن القول إن عصر تثبيت الليرة انتهى فعليا حتى لو لم يتم نعيه حتى الآن بطريقة رسمية، ومن يتوهم أن حال الليرة «أزمة وبتقطع» على الطريقة اللبنانية فهو مخطئ لأن زمن الـ 1500 ليرة للدولار قد ولّت، وبالتالي لا سقوف لتدهور الليرة، التي سيتم تعويمها، في ظل تخبط الأسواق اللبنانية ووجود عدة أسعار لصرف العملة أمام الدولار بين تسعيرة المصرف المركزي «الوهمية» 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، وبين سعر المنصة الإلكترونية التي أنشأها مصرف لبنان من أجل تحديد سعر صرف الليرة مقابل الدولار المدعوم، وفقاً لسِعر صَرف يبلغ 3900 ليرة، وهو السعر نفسه الذي يسمح على أساسه بالسحوبات النقدية بالليرة اللبنانية من الودائع بالدولار، بالإضافة إلى سعر السوق السوداء الذي اقترب من ملامسة عتبة الـ9 آلاف ليرة مقابل الدولار بعد أن حقق رقماً قياسياً خلال العام عند حوالي 10 آلاف ليرة.

لكن ماذا يعني تعويم الليرة، وما انعكاس هذه الخطوة على الوضع المالي اللبناني؟
في حديث خاص لـ«المجلة»، مع النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، الدكتور محمد بعاصيري، رأى أن ثمة عاملين وراء الأزمة التي يشهدها لبنان، العامل الأول داخلي، وهو عدم الحوكمة والفساد على مستوى الدولة، والعامل الثاني خارجي، وذلك مع ابتعاد لبنان عن محيطه العربي.
أما على مستوى الأزمة المصرفية وهبوط سعر الليرة، فقد أوضح بعاصيري أن «هناك عديدا من الأنظمة المالية المعتمدة في العالم، فهناك من يعتمد نظام تثبيت العملة كدول الخليج، لأن عملتها مرتبطة بالدولار أي «fix parity»، وهناك دول عملتهم تكون معوّمة (floating) على أساس العرض والطلب كالدول الأوروبية والين الياباني وغيرها، مشيرا إلى أن «من يحدد قوّة العملة هو اقتصاد البلد نفسه».
ولفت أن «لبنان منذ عام 1993 وتحديدا منذ مجيء الرئيس الشهيد رفيق الحريري على الحكم الذي بدأ سياسة تثبيت العملة، فقد أصبحت الليرة اللبنانية مرتبطة بالدولار ولكن ضمن هامش ضيق جدا بين 1500 و1515 ليرة للدولار الواحد فقط»، وتابع: «تثبيت العملة استمر منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا رسميا، إذ لا يزال المصرف المركزي يحدد السعر الوسطي للعملة بـ1507.5. ولكن فعليا العملة اللبنانية أصبحت خاضعة لعدة عوامل منها متطلبات السوق، إذ إن الواقع الحالي لا يعكس سعر 1507 للدولار الواحد إنما أقل بكثير، وهو فعليا يساوي سعر الصرف في السوق السوداء ضمن هامش متحرك بما يقارب الـ8700 و8800 بتاريخ اليوم (الأربعاء)، وهو ما يسمى «floating currency» أي «تعويم العملة» إذ لم تعد الليرة مرتبطة بأي عملة أخرى وتحديدا بالدولار».
وأشار بعاصيري إلى أنه «عند التعويم تصبح الليرة خاضعة للعرض والطلب، وكذلك تتأثر بعوامل أخرى غير اقتصادية وهي المضاربة في السوق، لا سيما في ظل غياب مقومات الدولة السليمة في لبنان، مع العلم أن العامل الاقتصادي يبقى الأهم».

تصريحات سلامة خرجت عن سياقها
وأكّد بعاصيري أنه جرى إخراج تصريحات سلامة عن تعويم الليرة من سياقها، «فرسميا لا تزال الليرة مرتبطة بالدولار، إلا أنه في الواقع هناك ثلاث تسعيرات لليرة، فالتسعير بين مصرف لبنان والمصارف اللبنانية يتم على أساس 1507.5 كسعر وسطي بين 1500 و1507 ولكنه سعر (دفتري)، وهناك سعر المنصة الإلكترونية التي أنشأها مصرف لبنان من أجل تحديد سعر صرف الليرة مقابل الدولار المدعوم، والذي يتم على أساسه استيراد السلع المدعومة وفقاً لسِعر صَرف يبلغ 3900 ليرة، وهو السعر نفسه للسحوبات النقدية بالليرة اللبنانية من الودائع بالدولار أي 3900 ضمن سقوف معينة تحدد بحسب الوديعة، ناهيك عن تسعيرة السوق التجارية وهو السعر الأقرب إلى الواقع».
إلى ذلك، رأى أنه «في حال تم التوصل إلى حل أو اعتماد سياسة معينة متعلقة بسعر العملة سواءً تثبيت أو تعويم، يأتي ذلك ضمن صفقة كاملة، أولا أن تكون هناك حكومة إصلاحات اختصاصية تعيد لبنان إلى الحضن العربي، ويكون له مصداقية، وثانيا أن يتم العمل حسب برنامج صندوق النقد الدولي. وفي حال توفر هذين الشرطين عندها يتم تحديد سياسة واضحة للعملة تكون خاضعة تقريبا لعوامل السوق أي العرض والطلب، أي تعويمها ولكن بوجود جهة رقابية قوية كالبنك المركزي وليس تعويما جنونيا يخضع للمضاربات دون وجود رقابة كالذي نشهده اليوم».

سياسة العملة سياسة عليا
وفيما يحمّل البعض مسؤولية الانهيار الاقتصادي لسياسة تثبيت العملة، فإن النائب السابق لحاكم مصرف لبنان له رأي آخر، وبرأي الدكتور بعاصيري فإنه «قبل اندلاع ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) كانت هناك أصوات معارضة لسياسية التثبيت ولكنها كانت ضئيلة، لأن الجميع كان يستفيد من هذه السياسة على الصعيد الشعبي من حيث توفر البحبوحة الاقتصادية للجميع، ولكن عندما وقعت الواقعة بدأ جلد هذه السياسة»، موضحا أن «سياسة التثبيت هي سياسة عليا وليست سياسة مصرف لبنان كما يدعي البعض ويحمل المسؤولية لسلامة، علما أن الأخير عمل جاهدا لتثبيت العملة وتنفيذ سياسة الحكومات».
إلى ذلك، أشار بعاصيري إلى أن البعض ينتقد الراحل رفيق الحريري وسياساته المالية، فصحيح أنه كان أول من نادى بتثبيت الليرة واتخذ هذه السياسة، ولكن الحريري لم يستمر بالحكم منفردا إنما جميع الحكومات المتعاقبة اتبعوا هذه السياسة، كما أنه طيلة 30 عاما لم نسمع أية انتقادات لهذه السياسة من قبل أي سياسي».
وأكّد نائب حاكم مصرف لبنان السابق في الختام، أن العملة هي مرآة حالة البلاد، فإذا كان الوضع مستقرا أو يدعو للاستقرار السياسي والاقتصادي فهذا يعني أن لبنان على طريق التعافي والعملة لديها أمل بالتحسن، ولكن إذا كانت الحالة السياسية والاقتصادية سيئة، فعلى الدنيا السلام».

لكن ماذا عن ماهية هذا التعويم، وما هي نتائجه؟
أشار الخبير الاقتصادي، الدكتور باتريك مارديني، في حديث لـ«المجلة» إلى أنها ليست المرة الأولى التي نسمع فيها الحديث عن تعويم الليرة الموجه، وهو ما ورد أيضا بخطة حكومة حسان دياب، موضحا أن «التعويم الموجه أو التعويم بتدخل من المصرف المركزي، يرتكز على ترك السوق تحدد السعر المناسب لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، وتالياً فإنّ العرض والطلب يتحكمان بقيمة العملة، ولكن في حال حدوث ضغط كبير على الليرة، فذلك لا يمنع البنك المركزي من التدخل على سوق الصرف، عبر ضخ العملة الخضراء، في حال رأت أن العرض قليل وسعر صرف العملة المحلية يتراجع كثيراً».
ولفت مارديني إلى أن «سلامة أوضح فيما بعد أن التعويم الموجّه سوف يعتمد بعد انتهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وليس الآن، ما يعني أنه أرجأ هذه الخطوة ولكن يبدو أن هذا هو التوجّه في المرحلة المقبلة».
إلى ذلك، أكد أنه «على الرغم من أن هذ التوجّه لن يحدث قبل انتهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فإن لبنان يعيش اليوم فعليا نوعا من التعويم الموجه، وتابع: «فمن جهةٍ سعر صرف الليرة في السوق معوّم إذ تتأرجح بين 8000 و8800 اليوم، ومن غير المعلوم إلى أين قد تصل غداً، ومن جهة ثانية مصرف لبنان يتدخل عن طريق ضخّ دولار في السوق عبر الدعم للسيطرة على السوق وهذا ما نرى نتيجته اليوم عبر غرق الليرة».

نتائج التعويم الموجّه
ورأى مارديني أنه «حتى لو كانت النية تعويم الليرة، لكن فعليا النتيجة ستكون غرق العملة الوطنية في بلد مؤسساته ضعيفة كلبنان لا مصداقية فيما يتعلق بفصل السياسة النقدية عن السياسة المالية، فلا أحد سيثق أنه في حال طلبت الحكومة من المصرف المركزي الاستدانة أنه لن يلبي طلبها من خلال طباعة الليرة لتمويل نفقات الحكومة وهو ما سينتج عنه انهيار العملة الوطنية»، مشيرا إلى أنه «ليس في لبنان فقط، فجميع البلدان النامية ليس لديها القدرة على فرض استقلالية للسياسة النقدية وهو ما يؤدي إلى غرق العملة الوطنية وسيزيد هروب المواطنين من عملتهم، وفي حال قرر المصرف المركزي التدخل لوقف عملية تدهور سعر الصرف الناتجة عن قلة الثقة وطباعة الليرة والهروب منها، فهو سيخسر احتياطيه المتبقي وهو 17 مليار دولار كما خسر قبلها الـ50 مليار دولار».
وبحسب مارديني، فإن «نتيجة التعويم الموجّه ليست مختلفة عن نتيجة سياسة التثبيت علما أن خسارة الاحتياطي ستكون أبطأ ولكننا ذاهبون بالاتجاه نفسه»، ورأى أن «نظام التعويم الموجه يجمع سيئات نظام التعويم من حيث انهيار الليرة، وسيئات النظام الثابت القديم من حيث إن المركزي سيخسر احتياطيه».

لبنان أمام خيارين
فعليا، لبنان اليوم أمام خيارين، إما التوجه نحو النظام المعوّم الموجه الذي يُدفع باتجاهه من قبل الحكومة وبعض الجهات، وهو برأي مارديني «نظام سيئ وهو يوصف في علم الاقتصاد بـ(dirty or managed float)، والخيار الثاني بدخول لبنان نحو استقرار حقيقي لسعر الصرف عن طريق اعتماد مجلس نقد»، موضحا أن «الأخير قادر على وضع حد لتدهور سعر صرف الليرة وحتى تقويتها لأنه يغطي الليرة بالعملات الصعبة وعندها تتثبت الليرة، وهذا النظام يعيد الثقة بالليرة عكس النظام المعوّم، إذ يطمئن كل شخص يحمل الليرة أن هناك مقابلها (fresh dollar) في المصرف».
كما رأى مارديني أنه «في ظل خيار النظام الموجه فأموال المودعين في المصارف ستبقى خاضعة لـ(الكابيتال كونترول) ولن يستطيعوا تحريرها إلى أبد الآبدين، أما بخيار مجلس النقد أي الـ(currency board) فيمكن استرجاع جزء كبير من أموال المودعين حتى إن مجلس النقد يزيل تلقائيا جميع القيود عن الليرة اللبنانية وأي شخص لديه ودائع بالليرة يستطيع أن يسحبها ولديه حرية التصرف بها، أما في الشق المتعلق بالدولار فهو يقلص حجم الفجوة المتعلقة بالمصارف».
وختاما، أشار مارديني إلى أنه قد يكون صندوق النقد الدولي هو الذي يحاول أن يدفع لبنان باتجاه نظام التعويم الموجه لأن صندوق النقد اعتاد العمل وفقا لهذا النظام، مشددا على أن «كيفية إصلاح النظام النقدي هو خيار يعود للبنان وهو من يقرر أي نظام سيختاره وعلى صندوق النقد التنفيذ، وحتى لو كان الأخير يدفع باتجاه التعويم إلا أنه لن يمنع في حال كان خيار لبنان مجلس النقد فذلك لن يؤثر سلبا على المساعدات التي قد يأخذها لبنان من صندوق النقد».

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع المجلة