مجلس النقد بين التأييد والرفض… فهل هو فعلاً الحل لأزمة الليرة؟

مجلس النقد بين التأييد والرفض… فهل هو فعلاً الحل لأزمة الليرة؟

بعد طرحِ البروفسور ستيف هانكي، الملقّب عالميا “طبيب العملات”، مبادرة إنشاء مجلس النقد اللبناني الذي برأيه يضع لبنان على سكة الخروج من الأزمة، عصفت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بمواقف بعضها يؤيد الطرح وبعضها ينتقده، فيما اختلط على البعض الآخر سعر الصرف المثبت (Pegged Exchange Rate) الذي كان يعتمده مصرف لبنان وسعر الصرف الثابت الذي ينتج من مجلس النقد (Currency Board)، فاعتبروا أنه مجرد تكرار للتجارب السابقة. وفي حين تركزت الانتقادات الأخرى على عدم قدرة مجلس النقد الذي طرحه هانكي على معالجة فجوة المصارف وتغطية الكتلة النقدية لغياب ما يكفي من الاحتياط، ذهب آخرون إلى التشكيك في أن مجلس النقد يفضي إلى ليرنة (lirafication) قسرية للودائع تؤدي حتما إلى مزيد من التضخم وارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة وتعميق الأزمة.

ولكن بعيدا من المؤيدين والمعارضين لطرح هانكي، وضع رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني النقاط على حروف هذا الطرح، فأشار الى أن “لبنان يعاني عددا من الأزمات المتزامنة التي يمكن تجزئتها إلى قسمين: أولهما يمس لقمة عيش المواطن مباشرة، وأعني إغلاق الشركات وتسريح العمال وارتفاع سعر صرف الدولار والأسعار، حيث يتقاضى العمال والموظفون أجورهم بالليرة التي خسرت أكثر من 80% من قيمتها مقابل الدولار، ما جعل هذه الأجور بدورها غير كافية لحاجاتهم المعيشية. هكذا ارتفعت نسبة الفقر في لبنان من 28% إلى 55%، وهي نسبة مرشحة لمزيد من الارتفاع إذا ما استمرت قيمة الدولار مقابل الليرة في الصعود في العام 2021. ويتعلق القسم الثاني بفجوة المصارف التي أودعت معظم دولارات زبائنها لدى مصرف لبنان الذي حوَّل معظمها إلى ليرة وسلّفها للحكومة اللبنانية. وبما أن الليرة خسرت قيمتها من جهة وتخلفت الحكومة عن دفع سندات اليوروبوندز من جهة أخرى، لم يعد بإمكان مصرف لبنان سداد موجباته بالدولار تجاه المصارف، ما خلق فجوة للمصارف مقدارها 83 مليار دولار”.

اللافت أن النقاش في البلاد يتمحور حول القسم الثاني، أي فجوة المصارف، في حين يتم التغاضي كليا عن القسم الأول، أي الأزمة المعيشية ولقمة عيش المواطن. من هنا يعتبر مارديني أن “مجلس النقد، بالشكل الذي اقترحه البروفسور هانكي والمدير العام السابق لصندوق النقد الدولي جاك دو لا روزيير، حلا جديا وسريعا للأزمة الاقتصادية والمعيشية لأنه يعيد الثقة في الليرة ويخفض سعر الدولار في غضون شهر واحد فقط. أما بالنسبة إلى فجوة المصارف وتخلف الحكومة عن دفع ديونها وكيفية توزيع الخسائر، فهو موضوع خارج نطاق مجلس النقد ويتطلب قرارا سياسيا وإجماعا وطنيا قد يستغرق أشهرا طويلة. ولكن من غير المقبول ترك الأزمة المعيشية تستفحل في انتظار الحل السياسي لموضوع فجوة المصارف ومفاوضة الدائنين، لذا تأتي ضرورة الإسراع في تبني طرح مجلس النقد لوقف الانهيار أولا”.

يغطي مجلس النقد مطلوبات الليرة للمصرف المركزي باحتياط العملات الأجنبية بنسبة 100%، لا مطلوبات الدولار. وتبلغ مطلوبات الليرة لمصرف لبنان اليوم نحو 84 تريليون ليرة تشمل العملة النقدية المتداولة وودائع المصارف بالليرة لدى مصرف لبنان. وبما أن المصرف المركزي ما زال يملك نحو 17 مليار دولار من احتياط العملات الاجنبية، فإن هذا المبلغ يكفي لتغطية مطلوبات الليرة للمركزي بنسبة 100% من دون المسّ بالذهب على سعر صرف 8000 ليرة للدولار أو7000 ليرة أو6000 ليرة، حتى 5000 وأقل من ذلك. إلا أنه من الأهمية أن يتم تحديد سعر الصرف عن طريق قوى السوق كما حصل في بلغاريا، لا بشكل استنسابي كما حصل في الإكوادور، وقد طرح هانكي السبيل لذلك.

ومع تغطية مطلوبات الليرة لمصرف لبنان، ستصبح الكتلة النقدية بالليرة (M2) مغطاة تلقائيا بالدولار لأنها تبلغ نحو 66 تريليون ليرة، أي أقل من مطلوبات المركزي بالليرة. ويعني ذلك تحرير الليرة اللبنانية في المصارف فيصبح بالإمكان تحويلها إلى دولار طازج (fresh) عبر المصارف أو سحبها أو تحويلها الى الخارج من دون قيود لأنها مغطاة بنسبة 100% بالدولار.

لكن البعض يخشى تحويل كل الليرات في لبنان إلى دولار وسحبها من المصارف؟ يؤكد مارديني: “رغم قدرة المصارف على تلبية الطلب المفرط على الليرة لكون الكتلة النقدية بالليرة مغطاة بنسبة 100% باحتياط الدولار، إلا أن المنطق والتجربة يشيران إلى أن كمية الدولارات التي سيتم تحويلها إلى ليرة تفوق بأضعاف ما سيتم تحويله من ليرة إلى دولار. وهذا ما حصل في جميع الدول التي أنشأت مجلس نقد من دون أي استثناء لأنه حوّل عملتها المضطربة إلى عملة ثابتة ومدعومة بآلية واضحة تؤكد القدرة على تحويل كامل مطلوبات الليرة في المصرف المركزي إلى عملة الاحتياط غب الطلب. عندها تصبح العملة التي لم يكن أحد يرغب في الاحتفاظ بها (High Velocity)، عملة موثوقة يريد الجميع الاحتفاظ بها (Decrease in Velocity).

ومع الاعلان عن إنشاء مجلس النقد رسميا من قِبل مجلس النواب، يتم تعويم الليرة لمدة شهر ووقف طباعة المزيد منها ورفع جميع القيود عن الليرة (لا الدولار) في المصارف. وخلال هذا الشهر، ينحدر سعر الدولار مقابل الليرة على نحو ملحوظ نظرا الى الفوائد المرتفعة نسبيا التي ستقدمها المصارف في بادئ الأمر على الليرة ورغبة المستثمرين في الافادة من فارق الفوائد بين الليرة وعملة الاحتياط (Arbitrage)، خصوصا أن الليرة باتت قابلة للتحويل بنسبة 100%. ومع تدفق التحويلات، ينخفض سعر الدولار خلال فترة الشهر الأول ثم يثبت على المستوى المنخفض فترتفع قدرة المواطن الشرائية تلقائيا وتنخفض الأسعار وتتقلص نسبة الفقر في لبنان.

وبعد ثبات الليرة، تعود الثقة وتستمر التدفقات المالية التي تنعكس ازديادا بالكتلة النقدية وانخفاضا بمعدلات الفائدة. وهنا جوهر الاختلاف بين سعر الصرف المثبت (Pegged Exchange Rate) الذي يعتمد على الثقة بالسياسة الاستنسابية للمصرف المركزي (Discretionary Monetary Policy) على غرار ما جرى في الارجنتين ولبنان من جهة، ومجلس النقد (Currency Board) القادر على تحويل كامل العملة النقدية الى دولار نظراً الى التغطية بنسبة 100% من جهة اخرى. مع الاشارة الى أن أسعار الفائدة المنخفضة والأموال المتدفقة تساهم بالانتعاش في لبنان فتعود المصارف إلى العمل بالليرة بشكل طبيعي وتمنح القروض ويتحرك الاقتصاد. ففي بلغاريا مثلا، انخفض التضخم من أكثر من 100% في الشهر عام 1997 الى 1.7% في السنة عام 1998 وارتفع نمو الناتج المحلي الحقيقي من ركود نسبته -10.1% عام 1996 إلى نمو نسبته +3.5% عام 1998 وانتقلت الموازنة العامة من عجز نسبته -12.7% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1996 إلى فائض عام 1998. ويعني ذلك أن إيرادات الدولة باتت تكفي لتغطية نفقاتها من دون الحاجة إلى الاستدانة من المصرف المركزي. وللمصادفة، فقد كانت بلغاريا أيضاً غارقة في أزمة مصرفية”.

يعاني لبنان من ازمة معيشية واقتصادية خانقة يعد هانكي بإنهائها في غضون 30 يوما عن طريق مساعدة مجلس النواب على تكييف حل مجلس النقد للواقع اللبناني. وبالتوازي، يعمل مع دو لا روزيير، المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، على تأمين مساعدات عاجلة ومرحلية من الجهات المانحة للاستمرار بسياسة الدعم الى حين معالجة فجوة المصارف وإصلاح القطاع العام الذي سيحرر بدوره أموال “سيدر”. فما الذي ينتظره مجلس النواب للاستعانة بخبرات هانكي، خصوصاً أنه عرض خدماته من دون أي مقابل؟

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار