59 (تسعة وخمسون) طناً من العملات اللبنانية وصلت ظهر الخميس (وقفة عيد الأضحى) إلى مطار رفيق الحريري الدولي، مقبلة من مدينة “لايبزيغ” شرق ألمانيا، على متن طائرة شحن عائدة للخطوط الجوية القطرية تحمل الرقم QR8646
هذه الأطنان الـ59 من الليرات مجهولة الفئات، خصوصاً أنّ مصرف لبنان يقوم بطبع العملة بتكتّم من دون أن يفصح صراحة عن الأرقام وعمّا يقوم به، خلافاً للمادة 50 من قانون النقد والتسليف (يحيط المصرف الجمهور علما بأنواع ومميزات الأوراق التي ينوي وضعها في التداول). لكن يُرجّح أن يكون أغلب هذه الأموال من فئة الـ100 ألف ليرة لبنانية.
في عملية حسابية بسيطة، يمكن الاستنتاج أنّ المبلغ هو في حدود 5 تريليون ليرة لبنانية أو أكثر بقليل، في حال حسمنا أوزان التوضيب والتغليف والصناديق من الوزن الإجمالي، طالما أنّ ورقة الـ100 ألف ليرة تزن نحو غرام واحد (50 طن، تساوي 50 مليون غرام x 100 ألف ليرة = 5 تريليون ليرة لبنانية).
إحصاءات مصرف لبنان تشير إلى أنّ الكتلة النقدية المتداولة في السوق المحلية حتى 16 تموز هي نحو 20.1 تريليون ليرة لبنانية أو أكثر بقليل، مقارنة بنحو 18 تريليون نهاية شهر أيار، و7 تريليونات منذ انطلاق ثورة 17 تشرين الأول 2019، أي أنّ الزيادة بلغت نحو 13 تريليون، بمعدل 2 تريليون ليرة لبنانية شهرياً منذ اندلاع الثورة إلى اليوم. وهي ناتجة من عمليات طبع يقوم بها مصرف لبنان من خارج قانون النقد والتسليف، ولعل الرقم الاجمالي مع الزيادة المفترضة للأموال التي وصلت إلى المطار، ستصبح نحو 25 تريليون ليرة لبنانية مستقبلاً!
لكن ماذا تعني هذه الأرقام؟ وعلام تؤثر زيادة 13 تريليون ليرة من الأوراق في السوق؟
يقول الخبير الاقتصاد الدكتور باتريك مارديني لـ”أساس” إنّ قاعدة احتساب تأثير زيادة العملة على الاقتصاد وأسعار السلع تسمى Quantity Theory of Money أو كذلك The equation of exchange. وهذه المعادلة هي كالتالي: M .V = P . Y، أما الحرف M فيرمز إلى حجم الكتلة النقدية، والحرف V هو حجم تداول العملة، فيما الحرف P هو سعر السلع (price) وأخيراً الحرف Y هو الناتج المحلي الإجمالي. يشرح مارديني أنّ “أسعار السلع ترتفع كلما ارتفع حجم الكتلة النقدية”. ويضيف من باب التبسيط وبعيداً عن المؤشرات الاقتصادية الأخرى وتعقيداتها، أنّ “مضاعفة الكتلة النقدية تعني من حيث المبدأ مضاعفة سعر أيّ سلعة”، وهذا بدوره يعني أنّ “العملة تخسر نصف قدرتها الشرائية كلما تضاعف سعر السلع”. وهذا طبعاً بغضّ النظر عن التقلّبات اليومية في سعر صرف الدولار والتلاعب به لدى صرّافي “السوق السوداء”، لأنّه عامل آخر إضافي منفصل.
فلنفرض أن مواطناً لبنانياً كان يحمل في جيبه 100 ألف ليرة في 17 تشرين الأول الفائت، هذه الورقة في حينه كانت قيمتها فعلا 100 ألف ليرة، لكن حينما قفزت الكتلة النقدية من 7 تريليونات إلى 14 تريليون بين شهري كانون الثاني وشباط (ربطاً بالزيادة التي تحدثنا عنها أعلاه بمعدل 2 تريليون كل شهر) فقدت الـ100 ألف نصف قيمتها وأصبحت نحو 50 ألف. وهي مرجحة لأن تفقد نصفاً آخراً من قيمتها حينما تصبح الكتلة النقدية في حدود 21 تريليون، أي في غضون الأسابيع المقبلة فور بدء مصرف لبنان بطرح، ولو بجزء بسيط، تريليوناته الخمسة في السوق… لتمسي بذلك الـ100 ألف ليرة قرابة 25 ألف ليرة فقط، كما ستتصاعد هذه الوتيرة أكثر فأكثر مع الوقت.
لكن لماذا يطبع مصرف لبنان الليرات اللبنانية؟
في المبدأ، فإن السياسة النقدية التي ينتهجها مصرف لبنان تضع نصب عينيها أمراً واحداً لا ثاني له، هو محاولة إطفاء مطلوباته والتزاماته الدولارية، لكن بالليرة اللبنانية التي لا يملكها، فيعمد إلى طبعها. مصرف لبنان مدين للمصارف بنحو 84 مليار دولار، وهذه الأموال هي جزء رئيسي من الخسائر التي تكبّدها المركزي بعد إعلان الدولة التوقف عن سداد سندات الـ”يوروبوند”. وهي في الحقيقة أيضاً، ودائع المواطنين التي وظّفتها المصارف بدافع الجشع لدى مصرف لبنان. مع طباعة العملة الجديدة، يقوم مصرف لبنان بتغطية الديون المتراكمة عليه للمصارف بالليرة مقابل شطب ديونه بالدولار، فيما المصارف تقوم بدورها بشطب ديونها للمودعين بعد دفعها بهذه الليرات اللبنانية الجديدة أيضاً.
لا يكتفي مصرف لبنان باطفاء خسائره وخسائر المصارف المحلية، لكن يبدو أنّه يقوم بإقراض الدولة من هذه الأموال بالاتفاق مع وزارة المالية لدفع الرواتب والأجور ولسد احتياجات الدولة، برغم تأكيدات وزير المالية غازي وزني بأن الرواتب تُدفع من إيرادات الدولة من رسوم وضرائب.
ايرادات الدولة انخفضت منذ 17 تشرين الفائت أكثر من النصف، فيما الحكومة تقوم بدراسة زيادة الأجور اليوم، وعلى الأرجح أن ذلك سيحصل من خلال الأموال المطبوعة وليس من أموال الضرائب كما تدعي الحكومة. هذه السياسات ترتّب أعباء كارثية على المواطنين اللبنانيين جراء الانهيار في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، مع دخولنا مرحلة التضخم المفرط Hyperinflation الذي بدأ يأكل مداخيل الناس وسيجعل العملة اللبنانية في المقبل القريب من الأيام، مجرد أوراق سخيفة لا تساوي قيمة الحبر الذي طُبِعَت به.
هل يحق لمصرف لبنان طبع العملة بهذه الطريقة؟
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي لـ”أساس” إن قانون النقد والتسليف “ممتاز وعصري” ويحترم آليات الحفاظ على النقد، لكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة “لا يحترم هذا القانون ويتخطى صلاحياته، وقد فعل ذلك في أكثر من محطة”.
في طباعة العملة يقول يشوعي إن المادة 69 من قانون النقد والتسليف تؤكد أنّ مصرف لبنان “ملزم أن يُبقي في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الاجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي 30% على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على ألا تقل نسبة الذهب والعملات المذكورة عن 50% من قيمة النقد المصدر”، لكن مصرف لبنان لا يقوم بذلك.
في نظر يشوعي، فإن ذلك ليس الأمر الوحيد الذي خالف فيه رياض سلامة القانون المذكور، وإنما قام بما هو أعظم من ذلك حينما “ديّن الدولة أموال المودعين بغير وجه حق لأكثر من 25 سنة”، فيما القانون يلزمه بأن تكون تلك الاستدانة “إستثنائية ولآجال قصيرة ومحدّدة”
أما التريليونات الخمسة التي وصلت قبل أيام، فستأكل من قيمة كلّ ليرة في جيوب اللبنانيين، لتتكامل مع انخفاض سعر الليرة مقابل الدولار… ومن يدري؟ ربما نصل إلى أن تصير قيمة الـ100 ألف ليرة، ما كانت قيمته ألف ليرة قبل بدء الأزمة.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع أساس ميديا