تحضّ رؤية السعودية 2030 الشعب السعودي على خفض اعتماده على الحكومة، وعلى المبادرة الخاصة لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تبرز في حياته اليومية، لأن كل الاقتصادات الناجحة تتميز بتعدد الجهود المستقلة التي تسعى إلى تنمية المجتمع في أبعاده كافة.
ولذا يجب على الأثرياء السعوديين أن ينظروا في تخصيص بعض أموالهم لدعم مراكز فكرية خاصة ومستقلة، منها الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد الفكرية. فمنذ مطلع القرن العشرين، بدأت المؤسسات الفكرية تلعب دوراً محورياً في تمكين الشعوب الحديثة من معالجة المشكلات المجتمعية، عن طريق قناتين أساسيتين:
أولاً: تولّد تلك المؤسسات أفكاراً جديدة، قائمة على ابتكارات، فضلاً عن استيراد أفكار نجحت في مجتمعات أخرى. وهي قادرة على القيام بهذا الدور، لأنها تجمع مفكّرين متخصصين، وتكرّس جهودهم لهذا الغرض. ولذا نجد أن سياسات تتبناها الحكومات الغربية تنبع من مقترحات صدرت أصلاً من مراكز فكرية.
وعلى سبيل المثال، رئيس أميركا السابق رونالد ريغان، الذي أجرى ثورة في تنظيم الحكومة الأميركية، ويحمل أكبر شعبية لأي رئيس جمهورية سابق، اعتمد على أفكار «مؤسسة هيريتج» في واشنطن، لا سيما لتبرير سياسة خفض الضرائب. كما استفاد باراك أوباما أثناء فترة رئاسته من ابتكارات «مركز التقدم الأميركي» لرسم سياسات مهمة، كقانون الصحة «أوباماكير»، ولتعديل الحد الأدنى للأجور.
وتعمل مثل هذه المؤسسات باستمرار، وفي شكل مستقل وبتمويل خاص، على طرح حلول جديدة لمشكلات راهنة، كالدَين العام المتصاعد، والبطالة في فئة الشباب والأقليات، والهجرة غير الشرعية. ويستفيد الشعب كله من التنافس بين هذه الجهات المتعددة على اكتشاف السياسات الأمثل.
ثانياً: تدعم المؤسسات الفكرية الشعب من خلال تدريبه على مواجهة التحديات، ومناقشة القضايا في شكل مهني وفعّال، واستيعاب إيجابيات وسلبيات الحلول المطروحة. ويتمثل هذا الدعم أحياناً في دورات منهجية، كورش عمل بدعوة مفتوحة. بينما أحياناً تتفاعل المؤسسات الفكرية مع المجتمع عن بعد، من طريق مقالات صحفية، ومشاركات في برامج تلفزيونية، تعزز قدرات الشعب.
وتقع أنشطة «المعهد اللبناني لدراسة السوق» ضمن هذه الفئة من الدعم، إذ أُسس المعهد في عام 2016 لتثقيف المجتمع اللبناني حول أهمية الأسواق الحرة، والمبادرات الخاصة. ويتميز الشعب اللبناني، لا سيما فئة الشباب، برغبة شديدة لمعالجة الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها، ولكنه يعاني من قاعدة فكرية غير كاملة في الاقتصاد، تعيق قدرته على طرح حلول مناسبة. فسيطر التيّار الاقتصادي اليساري على أجيال متتالية من الشعوب العربية، ما دفعها نحو الإصرار على قيام الحكومة بدور قيادي في معالجة أية أزمة اقتصادية، على عكس ما تطالب به رؤية السعودية 2030.
ولذا، أصبح المعهد اللبناني ينظم دورات تدريبية، يشارك فيها الشباب المتطوعون في المنظمات السياسية، حيث يحاضر فيهم مختلف الخبراء كأكاديميين ورجال أعمال ووزراء سابقين، عن أهمية المبادرة الخاصة، وإيجابيات تحرير الأسواق، مثلاً في قطاع الكهرباء اللبناني، الذي يقل أداؤه عما يطمح له الشعب اللبناني. وعلى رغم أن المعهد لم يعمل إلا لمدة سنة، فإنه حقق إنجازات ملحوظة، تتمثل في إقناع أعداد كبيرة من الشباب بالمشاركة في دوراته.
وفي ظل التوجه الجديد للسعودية، قد ينظر رجال الأعمال وغيرهم من الأثرياء السعوديين في دعم أنشطة مماثلة في السعودية، وتأسيس مراكز فكرية بتمويل خاص، لإجراء دراسات حول أهمية المبادرة الخاصة، ولتثقيف المجتمع حول هذه القضايا الحيوية.
فعلى رغم أن الملكيات الخليجية اتبعت منهجاً اقتصادياً يختلف عما رسخ في الجمهوريات العربية، من إيمان أقوى في إيجابيات الرأسمالية، إلّا أن الشعوب الخليجية تقل ثقتها عموماً بأهمية المبادرة الخاصة، ما دفع الحكومة السعودية وغيرها للإشارة إلى ذلك في الرؤى الاقتصادية، وأصبحت الدول الخليجية تحتل مرتبات رفيعة نسبياً في مؤشرات الحرية الاقتصادية، لا سيما مقارنة بالدول العربية الأخرى، ولعبت سياسات التحرير دوراً محورياً في تعزيز مستوى المعيشة لدى المواطن العادي.
ولكن الاقتراحات الاقتصادية اليسارية التي تُطرح يومياً في الصحف الخليجية، كفرض ضرائب على الأجانب، وإغلاق الاقتصاد، وعدم مس الوظائف في القطاع العام، تدل على وجود حاجة ملحة لتثقيف الشعب حول طبيعة السياسات التي فعلاً تعزز أداء الاقتصاد.
ويجب على الأثرياء السعوديين الممولين أن ينظروا في تأسيس أكثر من مؤسسة فكرية واحدة لهذا الغرض، حتى لو دعم بعض المؤسسات تيارات فكرية أخرى، لأن إيجابيات التنافس بين المنتجين ليست محصورة على السلع التقليدية الملموسة، بل تمتد أيضاً إلى المنتجات الفكرية.
وتحديداً، فإنّ تعدّد المؤسسات الفكرية المستقلة التي تتنافس في طرح حلول جديدة، وفي تثقيف المجتمع، واستقطاب تبرعات الأثرياء، يخلق حافزاً قوياً لضمان جودة مخرجات تلك المؤسسات، وهو من أهم المبادئ التي يسعى التيار الرأسمالي لترسيخه.
فقد قال المناضل الأميركي مالكوم أكس: «حينما تكتشف شخصاً أكثر نجاحاً منك، لا سيما عندما تعملان كلاكما معاً في المجال ذاته، اعلمْ أنه يقوم بشيء لا تقوم به أنت».