أمّا وقد أقرت سلسلة الرتب والرواتب ومعها الضرائب المموِّلة لها، وتخطى لبنان بنجاح كل ما خلّفته من صخب وضجيج، أصبح في الامكان مقاربة تأثيراتها في الاقتصاد على نحو عقلاني وموضوعي، بعيداً من الاعتبارات الانتخابية والشعارات الشعبوية.
قبل أيام قال وزير التربية مروان حمادة في معرض حديثه عن سلسلة الرتب والرواتب في المدارس الخاصة ما حرفيته: “ما يزيد الطين بلة أن مشكلة الرواتب والاقساط جاءت في وضع اقتصادي سيئ وفي أجواء سياسية ضبابية“. وما ينطبق على المدارس التي سيدفع تكاليفها الطلاب ينطبق على كل القطاعات التي ستتأثر بإقرار السلسلة والتي سيدفع تكاليفها أولا وأخيرا المواطن اللبناني. فما هي أبرز تأثيراتها الاقتصادية؟
لم يجد رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني حرجاً باعتبار السلسلة “رشوة انتخابية تُدفع من جيب الشعب الكادح وتذهب إلى قطاع عام فضفاض وغير منتج“. واستنادا الى توقيت السلسلة واخراجها (إقرارها قبل بضعة أشهر من الانتخابات، وتصوير النقابيين لها كأنها هدية سياسية لموظفي القطاع العام)، فإن هدفها وفق ما يؤكد مارديني انتخابي بحت. وبعيدا من هذا الهدف، يركز مارديني على “ان عجز الموازنة للعام 2017 سيرتفع إلى 9.54%، ما يعني أنه ينبغي خفض نفقات الدولة 5.2 مليارات دولار بغية العودة إلى التوازن المالي الذي أصبح ضرورة وطنية في ظل ارتفاع الدين العام إلى 76.5 مليار دولار أي 149% من الناتج القومي. وفي حين أنه كان على الدولة عصر النفقات، عمدت الحكومة إلى زيادتها عن طريق إقرار السلسلة، ما يضع لبنان في خطر مواجهة أزمة دين مماثلة لليونان. وما خفض التصنيف الائتماني للبنان، إلّا دليل إضافي على التهور في إدارة الشؤون المالية للبلاد وعلى توجهها الحتمي نحو الإفلاس المالي“، وفق ما يؤكد مارديني.
في الحالات الطبيعية، عندما يعاني الاقتصاد من جمود أو انخفاض في الناتج المحلي، تقوم الدولة بتسهيلات أو تحفيزات لعل إحداها الخفوضات الضريبية، مثل الخفوضات التي قامت بها بريطانيا أخيرا لجبه انخفاض النمو. فماذا عن لبنان؟ يوضح المحلل الاقتصادي مجدي عارف، ان لبنان يعاني من أزمة كبيرة منذ العام 2011 عندما انخفض النمو الاقتصادي من 10.1% في العام 2009 إلى 0.9% في العام 2011، وبقي لبنان على هذه الحال السيئة حتى اليوم. وبدل أن تقوم الدولة بتسهيلات لتسريع عجلة النمو، قامت بعكس ذلك تماما، إذ فرضت قيوداً إضافيةً على النمو الاقتصادي وعلى الشعب من أجل تمويل السلسلة. وقد أدى إقرار الضرائب في معظم الدول الّتي أقرت فيها بحسب دراسة لمنظمة التعاون والتنمية الى انخفاض الإنتاجية وانخفاض الاستثمارات وانتقال رؤوس الأموال الأجنبية إلى دول أخرى تجذب الاستثمارات بالتسهيلات والخفوضات الضريبية، كما اختفت بعض السلع من الأسواق نهائياً نتيجة ارتفاع أسعارها، فيما انخفضت نسبة الادخار الذي هو ركيزة للنمو الاقتصادي والاستثمار المحلي.
وما غاب عن أذهان صانعي القرار، وفق عارف، هو ان الضرائب تشكل نسبة من الناتج المحلي، ومعظم الضرائب التي أقرت تتأثر بشكل مباشر بحجم هذا الناتج، أي ان ايرادات الدولة من هذه الضرائب تزداد عند ارتفاع الناتج المحلي وتنخفض عند انخفاضه. فعند ارتفاع الضريبة على الإسمنت ومواد البناء بكلفة 6 آلاف ليرة، فإن الطلب عليها سينخفض، وسيتباطأ القطاع بأكمله، وتاليا فإن الإيرادات الضريبية للدولة من هذه السلعة ستنخفض أيضا. وهكذا لن يكون مردود الضرائب على الدولة كما كان متوقعاً، بل سيكون أقل من ذلك بكثير. لذا ينبغي، برأي عارف، ان تكون دراسة مردود الضرائب مبنية على الناتج المحلي المتوقع بعد فرض الضرائب، لا قبلها.
بحسب البنك الدولي كان يفترض أن يصل نمو الناتج المحلي في لبنان لسنة 2018 الى2.9%، ولكن مع الضرائب الجديدة، يرى عارف أن هذه النسبة ستنخفض بشكل ملحوظ إلى نحو 1.8% فقط، أي بنسبة 62%، لذا ستكون إيرادات الدولة للسنوات المقبلة أقل من التوقعات بكثير. وتاليا فإنه مع الغلاء المعيشي الذي سيطاول الجميع، فإن الموظفين سيطالبون مجددا بسلسلة جديدة. فهل تقرر الحكومة رفع الضرائب مرة أخرى لتؤمن هذه الرواتب على حساب القطاع الخاص؟
أما بالنسبة الى القطاع الخاص، فإنه سيعاني الأمرّين، إذ سيتعرض لخسائر بسبب انخفاض مبيعاته وارتفاع تكاليف إنتاجه، وسيضطر إلى دفع 2% من الضرائب الإضافية على أرباحه المنخفضة أصلا بسبب سوء الوضع الاقتصادي، بدل أن تستثمر في مشاريع جديدة أو تذهب الى الادخار. فالتاجر الذي سيدفع الضرائب التي فرضت على المستوعبات المستوردة، سيضطر الى رفع سعر السلع والمنتجات بنسبة كبيرة. ليس هذا فحسب، فقد تكون السلعة الواحدة خاضعة لأكثر من ضريبة. فالكحول المستوردة مثلا ستكون خاضعة لثلاث ضرائب: الضريبة المفروضة على الكحول، وضريبة المستوعبات المستوردة، والضريبة على القيمة المضافة.
كذلك، سترتفع كلفة التصنيع. فعند شراء المصانع للمواد الأولية، ستدفع الضريبة على القيمة المضافة. وسيؤدي ذلك طبعا إلى انخفاض القدرة التنافسية للسلع المحلية، التي تعاني أصلا من ارتفاع كلفة الإنتاج بسبب الفاتورة المزدوجة للكهرباء وتردي البنى التحتية وصعوبة ممارسة الأعمال في لبنان.
كل هذا سيضطر الشركات الى تسريح عدد من عمّالها، وهذا ما أثبتته دراسة لجامعة كنتاكي وكارولينا الشمالية أن كل ارتفاع بنسبة 1% للضرائب على الشركات يؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة بين 0.2 و0.5%.
ولكن أمَا من ايجابيات للسلسلة؟ يلفت عارف الى ان الزيادة في الأجور ستفيد موظفي القطاع العام الذين يبلغ عددهم 270 ألف موظف، إلا أنها في المقابل ستضر بموظفي القطاع الخاص البالغ عددهم أكثر من 4 أضعاف موظفي القطاع العام، موضحا أن “الضرائب تطاول فعليا الشعب اللبناني أو 6 ملايين نسمة بحسب التقديرات، وخصوصا ذوي الدخل المحدود، لخدمة 270 ألف موظف أو 4.5% من اللبنانيين“.
وعلى رغم توافر العديد من الحلول للمشاكل التي يواجهها القطاع العام، قرر صانعو القرار معالجة العوارض بدل معالجة المشكلة نفسها. من هنا فإن مارديني وعارف يؤكدان أن المشكلة ستتفاقم وتصبح أكثر سوءا، كونها تكمن في حجم إنفاق القطاع العام، وما السلسلة إلّا زيادة كبيرة لهذا العجز الذي سيشعر بأعبائه كل اللبنانيين من دون استثناء.