مع ازدياد الطلب على المياه ورغم توفّر كميّات كبيرة من المخزون الطبيعي، لا يزال الشعب اللبناني يعاني من نقص كبير. فقد أصبحت حصة الفرد في لبنان من المياه تحت خط الفقر الذي يعادل ألف متر مكعب في السنة. ووفقا لدراسة أجراها مجلس البحوث العلمية في لبنان لليونيسف فإنّ ٧٠٪ من إجمالي مصادر المياه العذبة تلوّثت بمياه الصرف الصحي غير المعالجة من مختلف المنازل والمباني التجارية، مما أدى إلى عدم القدرة على استعمالها من دون تكرير، وهي بمجملها مياه مملوكة من القطاع العام (مصلحة المياه، البلديات…). أما النسبة المتبقية فجزء كبير منها يعود للقطاع الخاص الذي يستثمره ويوفّر خدمات يحتاجها المواطن بشدّة كشركات مياه الشرب.
إنّ المياه الملوّثة مملوكة من الجميع لذا فهي تُستَغَلّ بشكل غير صحيح يؤدي إلى الهدر والتلوّث. وهذا ما يعرف بمأساة ما هو مشترك. فبكونها متوفرة للجميع، لا ملكا لأحد، يقوم الجميع باستغلال هذه الموارد وهدر الجزء الأكبر منها دون مراعاة تأثير هذا الهدر على الباقين، فينتج عن ذلك القيام بتلويث المياه النظيفة لتوفير أعباء التكرير أو بسبب عدم توفّر شبكة للصرف الصحي.
عند النظر إلى المشكلة بشكل أعمق، نجد أن الحل بديهيّ جدا وهو نقل ملكيّة وإدارة المياه من الدولة إلى مؤسسات القطاع الخاص. ويؤدي ذلك إلى تسوية مشاكل الهدر وتلوّث المياه وانقطاعها ويخفّض من الكلفة التي ينفقها المواطن حاليا، وكلّ ذلك لشراء مياهه، إذ إنها تزيد من المياه النظيفة المتوفّرة من دون زيادة أعباء إضافية على الدولة أو زيادة العجز، وذلك لكون ميزانية الدولة لم تعد تحتمل. فشركة أونديو لبنان مثلا قامت بتحسينات ممتازة عند استلامها لمياه طرابلس حتى ٢٠٠٧ وجعلت من طرابلس المدينة الوحيدة التي لا تنقطع عنها المياه.
بالإضافة إلى ذلك وجد معهد كاتو في دراسة أجراها أن خصخصة المياه تؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتخفيف هدر المياه وَتُتيح تحسن الخدمات، وذلك من خلال شبكة توزيع تطول الجميع وتحسّن نوعية المياه. فبجعلها أملاكاً خاصة تصبح المياه قابلة للاستثمار، وبالتالي غير قابلة للهدر، فترتفع الكمية المتوفرة وتزداد المنافسة، مما يؤدي إلى خفض الأسعار وتوفر الخدمة للجميع وبخدمات أفضل. ويجب التوضيح أن المقصود بفتح القطاع للملكية الخاصّة هو التخلّص من احتكار طرف واحد للقطاع وجعله سوقاً حرّاً يستطيع فيه جميع الراغبين الاستثمار والمنافسة.
يبلغ متوسط هطول الأمطار السنوي حوالي ٨ مليارات متر مكعب على الرغم من أن الكمية المتوقعة للأعوام المقبلة أقل بكثير من هذا الرقم. يتبخر حوالي ٥٠٪ من الأمطار الهاطلة، في حين يتم هدر نسبة كبيرة من الأمطار المتبقية. هذا بالإضافة إلى مياه الأنهار الملوثة التي تصب في البحار دون أن تستثمر بشكل ذكي وتؤدي إلى تلويث البحار. أوضحت دراسات للأمم المتحدة أن ٤٠% من موارد المياه في لبنان تُهدَر بينما تنخفض هذه النسبة إلى ١٠% فقط في البلاد الأخرى. وبالنظر إلى الحاجة الملحّة لهذه الموارد رغم هدرها، يضطر المواطن إلى تحمّل أعباء إضافية.
في العام ١٩٨٩ قامت رئيسة وزراء المملكة المتحدة مارغريت ثاتشر ببيع الممتلكات إلى القطاع الخاص. وقد كان هذا القطاع، مثل لبنان، يعاني مشاكل في التغذية والهدر والتلوّث وقلّة الاستثمار، ولكن القطاع الخاص قام بتقليص الهدر ب٦٤%،وزيادة الاستثمارات وتخفيض الشكاوى بنسبة ٢٠%، وزيادة أوقات التغذية بشكل ملحوظ. هذا مع العلم أن الكلفة لم ترتفع إلّا بنسبة صغيرة مقارنة بالإصلاحات والخدمات ونوعيّة المياه التي توفّرت، وبالتالي فقد تحوّل قطاع حكومي غير فعّال يهدر الموارد إلى قطاع خاص منافس يسعى إلى خدمة الزبائن والمستثمرين من خلال تخفيض الأسعار وزيادة الخدمات بالإضافة إلى تقليص النفقات على الشركة والمستهلك.
رصدت الحكومة مبلغ مليار ونصف مليار دولار لمشروع الصرف الصحي وتنظيف الموارد المائية ووضع أنظمة للصرف، كما خصص البنك الدولي ٥٥ مليون دولاراً من إجمالي ٢٥٠ مليون لتنظيف بحيرة القرعون والقروض من الاتحاد الأوروبي لمجلس الإنماء والإعمار لهذه المشاريع، ولكننا نجد أن الأزمة تزداد يوما بعد يوم، ومياه الصرف الصحي ما زالت تجتاح الأنهر والبحيرات والآبار الجوفية والبحار.
وقامت الحكومة، خصوصا وزارة البيئة، بسنّ قوانين لمنع التلوث كالقانون ٤٤٤/٢٠٠٢ (قانون حماية البيئة) والقانون ٣٤١/٢٠٠١ (الحد من تلوث الهواء الناتج عن قطاع النقل والتشجيع على استخدام وقود أقل تلويثا) وانضمام لبنان في العام ٢٠٠٦ إلى بروتوكول كيوتو للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة ومرسوم تقييم الأثر البيئي، قرار وزارة البيئة رقم ٨٦٣٣ لسنة ٢٠١٢ (الذي يتضمن دراسة التأثير البيئي للمشاريع الخاصة والعامة على البيئة، وتعيين حلول للحد من الأثر البيئي)، مرسوم التقييم البيئي الإستراتيجي، قرار وزارة البيئة رقم ٨٢١٣ لسنة ٢٠١٢(الذي يتضمن تقييم الأثر البيئي لمشاريع القطاع العام وتقديم التعديلات اللازمة عن طريق إعلام الكيان المعني والعمل معه). وقد أصبح لبنان، على الرغم من ذلك، من الدول العشر الأكثر تلوثا في العالم، كما أنّ بيروت من أكثر ثلاثين مدينة ملوثة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التلوّث في لبنان يكلّف ٤٨٥ مليون دولاراً سنويا يشكل ١٢٠ مليوناً منها تلوّث المياه بحسب دراسة أجراها البنك الدولي.
ورغم جهود القطاع العام والمنظمات الدولية لحلّ المشكلة إلّا أنّ المياه ما زالت ملوّثة والصيّاد يعاني والمُزارع يخسر والمواطن يدفع أضعاف الكلفة بطرق مباشرة وغير مباشرة.
لقد أثبتت سياسة الإنفاق العام على قطاع المياه وسياسة سنّ القوانين التنظيميّة فشلها الذريع، فقد أصبحت أكثرية الموارد المائية التي كانت تعد مركزاً أساسيّاً لمختلف النشاطات غير صالحة للاستعمال. فهذه الموارد عوضا عن كونها مصدر المياه الوحيد كانت وسيلة الصياد في كسب عيشه. أما الآن فقد تم حظر الصيد في بحيرة القرعون بسبب حجم التلوث، كما أصبحت ٣٠% من الأسماك التي تُصطاد على الشواطئ اللبنانية ملوثة وغير صالحة للأكل. وقد أدّى ذلك إلى نقص الثروة السمكية واستيراد معظم حاجات لبنان من دول أخرى. فالصياد اللبناني يرى أنّ مهنته أصبحت تندثر بسبب قلّة الأسماك ولم تعد توفّر مصدر رزق له. أما القطاع السياحي الذي كان يعتمد على هذه الموارد كمركز جذب للسوّاح فقد خسر جزأً كبيرا منهم بسبب التلوث وإهمال هذه الموارد. والمُزارع الذي يعتمد على المياه لريّ مزروعاته على مدار السنة، والتي تُعتبَر المياه الجوفية والأنهار والبحيرات الملوثّة مصادرها الوحيدة، فقد أُجبِر على استعمال هذه المياه، مما أدى إلى انخفاض إنتاجه وعدم قدرته على تصديره لعدم مطابقته المعايير الصحيّة، تماماً كما حدث مع مزارعي التفاح. أما المواطن، فقد أصبح يعاني من الأمرّين: نقص المياه واضطراره إلى تحمّل أعباء إضافية لتلبية حاجاته، واستعماله منتجات ملوّثة تؤثر سلبا على صحته، مما يؤدي أيضا إلى ارتفاع مصاريف الطبابة على المدى الطويل. فقد أوضحت دراسة للاتحاد الأوروبي أن تلوّث المياه يشكّل السبب الأساسي لأمراض خطيرة تنتشر في لبنان كالإسهال الذي يؤدي إلى حالات موت لدى الأطفال. هذا بالإضافة إلى ارتفاع الكلفة على المعامل التي تحتاج إلى المياه، مما ينعكس عليها سلبا من خلال ارتفاع أسعار هذه المنتجات المحليّة ومنافسة المنتجات المستوردة لها.
عند الكلام عن مأساة ما هو مشترك، يفشل المرء في أن يستوعب أنّ المشكلة لا تكمن فقط في وضع ضوابط تمنع الآخرين من تلويث الأملاك العامة، فالمشكلة هي أنها مِلْك للجميع ولا تعطي الدافع لأحد بالاعتناء بها، ولكنّها تشجّع الجميع على استغلالها دون أي ضوابط أو مسؤولية.
أما الشعب اللبناني، فما زال يتعايش مع المياه الملوّثة ويدفع تكاليف باهظة بشكل مباشر وغير مباشر رغم غنى لبنان بالثروة المائية. وهو بحاجة ملحّة إلى هذه الموارد ويعاني نقصاً فيها على الرغم من وجودها بوفرة. لم تتوفّر هذه الموارد بعد لأنها أملاك مشتركة يستهتر بها عوضا عن الاعتناء بها. لم يعطِ القطاع العام النتائج المرجوّة طوال السنوات الماضية، بل ساعد على تفاقم مشكلة المياه رغم زيادة الإنفاق الكبير والقوانين التنظيميّة. لقد حان الوقت لتسليمها إلى القطاع الذي أثبت فعاليته في إدارة المياه. إنّ المياه النظيفة حقّ للجميع. فإلى متى سيُحرَم الشعب اللبناني من حقه؟