أهمية الاستثمار الفعّال في المراكز الفكرية

أهمية الاستثمار الفعّال في المراكز الفكرية

نهض مفهوم المراكز الفكرية في الدول الغربية خلال القرن العشرين، بعد تأسيس أول مركز فكري في المملكة المتحدة في مطلع القرن التاسع عشر (المعهد الملكي للخدمات المشتركة RUSI). وهناك اليوم في الولايات المتحدة ما يزيد عن ألف مركز فكري، تتميز بموازنات إجمالية تبلغ بلايين الدولارات، منها أموال عامة. فما هي أفضل وسيلة لاستثمار تلك الأموال؟

أصبح هذا السؤال مهماً في الدول الخليجية، لأنها بدأت تتبع القالب الغربي للمراكز الفكرية. فتم تأسيس مراكز فكرية جديدة عدة في دول كالسعودية والإمارات، تتناول قضايا استراتيجية واقتصادية. وكُلفت تلك المراكز ببناء المهارات المحلية، لأن الاعتماد شبه المطلق على الاستشاريين الأجانب لدعم صنع القرار أصبح موضوعاً شائكاً، لاسيما في ظل التصعيد الأخير والمستمر في التوترات الأمنية الإقليمية.

ولأجل طرح مبادئ عامة حول أفضل سبل لتفعيل المراكز الفكرية الخليجية، تجب أولاً الإشارة إلى الدور الذي تلعبه تلك المؤسسات. وتحديداً، تدعم المراكز الفكرية صنع القرار بالأساس من طريق وضع خبراء تكرَّس جهودهم لدرس القضايا الاستراتيجية اليومية، ولتقديم تحليلات وتوصيات لأصحاب القرار، من دون انشغال أولئك الخبراء في يوميات العمل الحكومي، التي تمنع الموظفين في الأجهزة الحكومية من التفرغ اللازم لدرس المستجدات الاستراتيجية في شكل عميق.

وفي رسالة غالبية المراكز الفكرية، توجد مادة تنص على أهمية توطيد علاقات تعاونية مع المراكز الفكرية العالمية، لأن لا يمكن الباحثين في المراكز الفكرية الخليجية أن يطرحوا سياسات فعالة لأصحاب القرار إلا إن كانت لديهم شبكة عالمية قوية. فتغذيهم معارفهم الدولية بمعلومات محورية حول ما تفكر فيه الحكومات الأخرى، كما أن المراكز العالمية تمنح المراكز الخليجية منفذاً للتفاعل مع أصحاب القرار في الدول الأخرى، وأيضاً الشعوب الأجنبية، من طريق الفاعليات والمساهمات الإعلامية.

وعلى سبيل المثل، فإن أحد أسباب سرعة اغتنام إيران الفرص الاقتصادية التي انفتحت لها بعد الصفقة النووية، هو متانة العلاقات بين المراكز الفكرية الإيرانية والغربية، التي شكلت أرضية لصفقات بين شركات عالمية وإيرانية.

وفي الماضي، عند التفاعل مع المراكز الفكرية الغربية، ركزت المراكز الفكرية الخليجية على الفاعليات المشتركة، كالمؤتمرات والندوات. كما أنها كانت تكلف خبراء المراكز الغربية بإجراء دراسات رصينة حول قضايا مهمة للدول الخليجية. ومثلت سياسات كهذه خطوة أولى منطقية، لاسيما في ظل الضعف النسبي لدى الكوادر البحثية الخليجية، إذ إنها لا تتصف إلا بخبرة محدودة في مجال إجراء دراسات رصينة لدعم صنع القرار.

ولكن يجب الآن الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي التفاعل مع المراكز الفكرية الغربية من طريق التبادل البحثي، وإجراء الدراسات المشتركة. فاستثمرت دول كالسعودية مبالغ كبيرة في تنمية شعوبها، مثلاً عبر برنامج بعثات الملك عبدالله، ويوجد الآن باحثون سعوديون متعددون قادرون على إجراء بحوث رصينة حول قضايا استراتيجية.

فما هو المردود الإضافي الذي يتحقق حينما تنتقل العلاقة من فاعليات مشتركة إلى دراسات مشتركة؟

أولاً، يهتم كبار الخبراء اهتماماً كبيراً بسمعتهم البحثية. فحينما يتعاونون مع باحث خليجي، تزداد العلاقة بين الطرفين عمقاً، كما تُخلق مصلحة مشتركة ومستدامة، لأن البحث لا يُمسح في عصر الإنترنت، على عكس المؤتمرات والندوات، التي قد تنتسى بسرعة بعد انعقادها.

ثانياً، تعتبَر البحوث المشتركة من أفضل الوسائل لتطوير القدرات لدى الباحثين، لأن بعد مرحلة الدكتوراه، لا يمكن التقدم في مجال البحث العلمي إلا من طريق الممارسة. ويقدم التعاون مع خبير أجنبي فرصة للتطور المستعجل، لأن خبرتهم في مجال البحث العلمي أكبر وأعمق من خبرات الخليجيين.

ثالثاً، ولّد التركيز السباق على الفاعليات المشتركة على حساب التعاون البحثي تصوراً عند الأجانب مفاده بأن الخليجيين مجرد أثرياء غير مثقفين، قابلين للاستغلال. ولذا يستمر بعض التصورات غير الدقيقة عند الشعوب الغربية حول الخليجيين، مثلاً أنهم إرهابيون، أو متخلفون، ما ساهم في إقرار قوانين مضرة للمصالح الخليجية، كقانون «جاستا». إذاً يجب إطلاق مشروع بحوث تعاونية جزئياً لمكافحة هذه الظاهرة، ولإقناع الحكام والمدنيين الغربيين بأن الشعوب الخليجية مسالمة ومثقفة، وقادرة على المساهمة في تطوير حلول فعالة للمشكلات الأمنية والاقتصادية العالمية.

ومن ناحية تفاصيل محددة، يجب على المراكز الفكرية الخليجية أن تحضّ باحثيها على إجراء دراسات مشتركة مع نظرائهم الغربيين. وتمكن الاستفادة من الوسائل التقليدية كافة، كالحوافز المالية، ووضع البحوث المشتركة كمعيار للترقيات. كما تمكن الاستفادة من وسائل غير نمطية، كإنشاء جائزة لأفضل بحوث مشتركة لباحث خليجي مع باحث أجنبي، وإعطاء أولئك الباحثين فرصة لمناقشة بحوثهم التعاونية على برامج تلفزيونية شهيرة.

ومن المفيد جداً أيضاً تبني مشاريع بحوث تعاونية موازية في المجال الأكاديمي، وهو مجال مكمل للدراسات الصادرة من المراكز الفكرية، إضافة الى الاستفادة من الفروع الخليجية لجامعات أجنبية، مثل جامعة نيويورك في أبو ظبي، كنقطة انطلاق.

آن الأوان، لأجل الاستثمار الفعال في المراكز الفكرية، أن يطور الباحث الخليجي خدمته لشعبه، من طريق بناء جسور فكرية متينة مع نظرائه الغربيين، تتجاوز شكليات الفاعليات المشتركة.

إضغط هنا لقراءة المقال على الموقع الرسمي للصحيفة